يقف الفلسطينيون الآن ووراءهم العرب والمسلمون فى أنحاء المعمورة، وكذلك الإسرائيليون ومن يؤيدهم سراً وعلانية أمام لحظة صعبة ومعقدة تتداخل فيها الأحداث والمعطيات على نحو خطير. فالمواجهات فى القدس وقيام مجموعات المستوطنين وقوات الكيان باقتحام باحات المسجد الأقصى صباح الاثنين الماضى، وتصدى المصلين ببسالة منقطعة النظير لهذا الاقتحام، يعيد مرة أخرى أجواء الانتفاضات الفلسطينية السابقة، ويثبت أن جذوة النضال الفلسطينى ما زالت مشتعلة ولن يثنيها شىء، كما يثبت فشل صفقة القرن فى صيغتها الترامبية.
مواجهات القدس هذه المرة تندلع فى ظل ظروف لم تمر بها القضية الفلسطينية من قبل، وكما أن فيها مؤشرات سلبية وعقيمة، فيها أيضاً مؤشرات مهمة ترفع من يقين الفلسطينيين بقدرتهم على اقتناص حقوقهم مهما كانت الصعاب. نلخص الوضع فى أربعة مؤشرات؛ أولها أن طرفى المعادلة الرسمييْن، أى السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية يمران بلحظة ضعف هيكلية، فالسلطة التى وعدت بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطنى الفلسطينى التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان وعداً مُبشراً بحراك فلسطينى شعبى ورسمى على السواء يعيد الوهج للحقوق الفلسطينية مرة أخرى، إذا به يذوب ويختفى بسبب تأجيل الانتخابات بسبب رفض الاحتلال إجراءها فى القدس المحتلة. سبب التأجيل الرسمى ليس مقنعاً لجموع الفلسطينيين الذين يفسرون الأمر بالمأزق الذى تمر به حركة فتح المنقسمة على نفسها والمقبلة على هزيمة كبرى، فجاء التأجيل ليمنع تلك الهزيمة، ولكنه وضع السلطة فى مأزق سياسى ومعنوى كبير، يوازيه المأزق الذى تعيشه إسرائيل التى ما زالت نخبتها السياسية تبحث عن تشكيل حكومة بعد ثلاثة انتخابات فى أقل من عامين، فى الوقت الذى يركز فيه نتنياهو المهزوم سياسياً وأخلاقياً وقانونياً على طريقة ما لإفشال منافسه ليبيد المُكلف بتشكيل الحكومة، لكى تعود إليه الكرة مرة أخرى. والخلاصة هنا أن مأزق السلطة ومأزق الحكومة الإسرائيلية يضع كلاً منهما تحت ضغوط كبرى، قد تؤخذ فيها قرارات مصيرية خاطئة ومكلفة للغاية.
المؤشر الثانى يتعلق باحتمالات الانزلاق إلى مواجهة عسكرية ذات طابع إقليمى، تشير التحركات على الأرض إلى أن نتنياهو المأزوم يتجه إلى أسلوب حافة الهاوية، فى ظل اقتناع يسيطر على النخبة والمجتمع الإسرائيلى أن الكيان يواجه تحديات وجودية خطيرة جرَّاء تحولات عديدة، أبرزها قرار إدارة بايدن العودة إلى برنامج العمل الشامل مع إيران بما يوفر لها إنهاء عزلتها والحصول على مواردها المالية المحتجزة فى أكثر من بلد، وهى موارد تقدر بمئات المليارات من الدولارات. ويصاحب ذلك عودة واشنطن إلى مبدأ حل الدولتين بما يقيد تأييد أى عمليات استيطانية صهيونية كبرى فى الضفة الغربية المحتلة، ويشكل تراجعاً جزئياً عن المفاهيم الخطيرة لصفقة القرن، لكن الأمر عملياً لم يصل إلى ممارسة ضغط أمريكى على تل أبيب للعودة إلى مفاوضات جادة تطبق مبدأ حل الدولتين بطريقة منصفة للفلسطينيين. ويمتد الأمر أيضاً إلى جمود باقى الجهود الدولية كالرباعية الدولية وفشلها فى استعادة أى قدر من الزخم لمبدأ المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
أزمة نتنياهو السياسية ليست أزمة فرد، بل هى أزمة كيان بكل مفاصله، تفسر اللجوء إلى التهديد بالحرب، من خلال قرار القيام بأكبر مناورة عسكرية جواً وبحراً وبراً، على الحدود الشمالية والجنوبية، وهو رسالة موجهة لحزب الله فى لبنان الذى لم يتردد بدوره فى إعلان التعبئة لقواته تحسباً لأى احتمال لتحول المناورات الإسرائيلية إلى عدوان على لبنان أو إيران أو سوريا. وفى غزة تجرى استعدادات تحسباً لأى عدوان تحت مسمى المناورات. ردود الفعل على هذا النحو، تضع المنطقة على حافة مواجهة خطيرة إن حدثت ستولد قواعد اشتباك مختلفة، وستعيد تركيب المعادلات والتوازنات بشكل عميق، لكن من الصعب تحديد فى أى اتجاه ستكون، اللهم تعميق أزمة المنطقة ككل.
المؤشر الثالث يتعلق بطبيعة المواجهات حول القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية التى تعود للعرب والمسلمين، فمن جانب يبرز إصرار الفلسطينيين بمن فيهم المقيمون فى قرى ومدن فلسطين المحتلة داخل ما يعرف بالخط الأخضر على إحياء ليلة القدر فى الحرم المقدسى رغم إغلاق الطرق من قبل الاحتلال، على أن بُعد الهوية الدينية الممتزج بالمشاعر القومية والوطنية يلعب دوراً كبيراً ومهماً فى إفشال كل الضغوط الإسرائيلية والصهيونية لتهويد القدس والسيطرة عليها. ومن جانب آخر يدلل على أن تحركات المستوطنين والأمن الإسرائيلى بهدف إذلال الفلسطينيين ومنعهم من الحق فى أداء مشاعرهم الدينية، هى جزء من الاستراتيجية المعمول بها منذ 1948 والهادفة إلى إخلاء أرض فلسطين من أهلها كما يظهر من سياسات الاستيطان المعتادة، وآخرها ما يجرى بشأن اقتلاع 48 أسرة فلسطينية من ممتلكاتها فى حى الشيخ جراح المقدسى لإنشاء أكثر من أربعمائة وحدة سكنية للمستوطنين الصهاينة، لكنها استراتيجية لن تنجح طالما ظل المرابطون الفلسطينيون على يقظتهم ووعيهم بحقوقهم، واستعدادهم المتصاعد لحماية المقدسات والأرض مهما كانت التضحيات.
المؤشر الرابع يتعلق بمولد جيل فلسطينى جديد فى الداخل الفلسطينى المحتل يؤمن بأن المواجهة العسكرية مع الكيان باتت محسومة لاستعادة الهوية والحق والأرض. وبالرغم من ندرة المعلومات، فقد أظهرت مجموعات الفلسطينيين القادمين من خلف الخط الأخضر للمشاركة فى حماية الحرم المقدسى وأداء صلاة القيام ليلة 27 رمضان، واندلاع مواجهات فى مدن حيفا والناصرة الفلسطينية مع الأمن الإسرائيلى من قبل الشباب الذين لم يستطيعوا الوصول إلى المسجد الأقصى، تظهر أن هناك توجهات جديدة لدى الأجيال الصاعدة والمتمسكة بهويتها الفلسطينية والعروبية فى علاقتها بسلطة الاحتلال، ولديها تقييم بأن الجهود السياسية لم تعد ملائمة لاسترداد الحقوق المغتصبة.
ووفق الدلائل المتاحة التى أشارت إليها تقارير إسرائيلية أن هذه المجموعات تُنظم ذاتياً وتتنافس فيما بينها فى الحركة ضد القمع الإسرائيلى، وليس لها قيادة معروفة، وتعمل على استخدام السلاح وتخزينه، وهى ليست لها علاقة بحزب الحركة الإسلامية الجناح الشمالى، ولديهم مشاعر سلبية تجاه منظمات فلسطينية مختلفة وكذلك السلطة الفلسطينية. وفى حال تعمق وازدياد مثل هذه التوجهات والتحركات الشبابية فى العمق الفلسطينى المحتل، تصبح أية مواجهات بين الكيان وأى طرف مجاور بمثابة فرصة لأعمال عنيفة فى الداخل الإسرائيلى، تعمق من أزمة الهوية والوجود على نحو لم يحدث من قبل.
المؤشرات الأربعة تجتمع معاً من حيث اللحظة الزمنية، تحيط بالقدس وما يجرى فيها من صراع هوية ووجود، والتى ستظل بمثابة المفجر الأكبر لنضال لن يتوقف حتى يحقق أهدافه.