«قرية الأبطال».. «نُوبة جديدة» تنتظر التهجير
ترعة تشطر القرية نصفين، على جانبيها تظهر المنازل، طابق أو طابقان على الأكثر من الطوب الأحمر والأبيض، خلف المنازل تطل أشجار المانجو، بعضها طالته الجرافات وعمليات الإزالة، وأخرى ما زالت ناضرة تنضح بالثمار، وسط الطريق الترابى المطل على الترعة يظهر جنديان، وعلم لمصر، بينهما يوضع جركن بلاستيكى، يغلقان به الطريق أمام السيارات المارة، حين تظهر فى الأفق أمامهما يلوحان لك بالوقوف؛ فالغريب لا يستطيع الولوج للداخل دون مرافق من أهل المنطقة. ينتهى بك الطريق على شط قناة السويس، التى تظهر ببواخرها، وعباراتها فى الأفق من فوق أسطح منازل الأهالى.
وفوق أشجارهم على الطرف الآخر من الترعة، تظهر الأوناش وعربات النقل الكبرى تنقل الرمال التى تنساب على أراضى أهل القرية بعد أن تضخم حجم الركام الناتج عن حفر القناة الجديدة، صوتها يختلط بأصوات حفيف الأشجار وطرقات العمال الذين لا يتوانون فى هدم البيوت، وأصوات المناشير المزعجة التى تقطع أشجار المانجو، عربات النقل التى تنقل ما تبقى من ركام إلى أرض أخرى لا يعرفون لها طريقاً حتى الآن، على جانبى الطريق الترابى مرصوص أثاث المنازل الذى أخرجه أصحابها تمهيداً للرحيل عن بلدهم وقريتهم الأثيرة «الأبطال».
الركام الناتج عن حفر "القناة" يتساقط على منازل المواطنين
تجاعيد وجهه تشبه الأرض التى ظهرت بعد سقوط أشجارها، وملامح عابثة من فرط الحزن على الجذور التى غرسها عبر سنوات العمر، بجلبابه المهترئ يقف الحاج إبراهيم عبدالحميد توفيق على بعد أمتار من جرافات القوات المسلحة، وفى ذاكرته عمر راح على تلك الأرض التى لونها بالأخضر منذ أن جاء إليها قادماً من السويس، مسقط رأسه، ليستصلح الأرض، ينقل الطين بين يديه من قاع الترعة التى تجاوره ليصنع الطوب ليبنى منزلاً إلى جوار أرض صحراء جرداء، ومن فدان إلى 15 فداناً من المانجو، يشاهدها اليوم وهى تجرف وتعاد إلى عهدها الأول، يذهب اللونان الأخضر والأسود ليسود الأصفر مرة أخرى، بعدما أمهلهم الجيش 7 أيام للرحيل وبدأت الجرافات فى إزالة شجيرات المانجو، بعدما جاءت أرضهم فى مخطط مشروع محور تنمية قناة السويس الجديدة.
الحاج إبراهيم أمام أرضه التي جرفتها حفارات القناة
«قرية الأبطال» الواقعة بالقنطرة شرق قناة السويس، تتبع محافظة الإسماعيلية، يعود تاريخها لما بعد انتصار عام 1973، حين قرر «السادات» منح عدد من الأراضى الصحراوية لمصابى الحرب، وتوطينهم بها، فسكنها العديد من أبطال أكتوبر، ومنها جاء اسمها التى هى عليه الآن، ورغم عمرها القليل، لكن استطاع القادمون لها من غرب القناة وصعيد مصر استصلاح آلاف الأفدنة.
لم يكتفِ الرجل الستينى ورفاقه حينها بالسعى لاستصلاح الأرض، لكنهم يرغبون فى امتلاكها، يقول لـ«الوطن»: «قلنا ندور عشان مفيش حد بعد كده يقولنا دى مش أرضكم»، وقدمت طلباً لهيئة الإسكان والتعمير فى القاهرة ودفعت رسوماً قدرها 1500 جنيه عن كل فدان، وجاءت لجنة لفحص الأرض، وخاطبت هيئة قناة السويس التى تبرأت من تبعية الأرض لها، وهى نفسها إدارة القناة اللى النهارده قدمت خرايط إن الأرض فاضية وما فيهاش غير عشش وممكن تتشال عشان المشروع.
الحاج سالم أمام منزله المتهدم
وقننت الدولة أوضاعهم، وأصبح ينام وباله مرتاح؛ فالعرق لم يذهب سُدى، لم يكن ذلك الاعتراف الوحيد من الدولة بأحقيتهم فى الأرض، فاعترفت الدولة أيضاً بهم حين قررت توصيل الكهرباء ومياه الشرب إلى منازلهم بأسمائهم وعناوينهم التى هم عليها.
بملابسه الرثة يقف الرجل الستينى، أول من خطت قدماه تلك المنطقة وسكن بكنف الأرض يقتات منها، يشير بيديه إلى أكثر من 800 فدان تطولها الآن يد الإزالة، وما فوقها من أشجار من عمر أولاده، الذى يتراوح بين 20 و25 ربيعاً، وفى منازل متاخمة للأرض، يقول: «المنازل من الطوب، ومن دور و2 و3، مش عشش زى ما قالت إدارة قناة السويس، أكثر من 1500 أسرة تقتات منها وتعمل على الفلاحة، تختلط فيهم الأنساب والأعراق ما بين بدو سيناء وصعيد مصر وسكان ما قبل شط القناة».[FirstQuote]
الحاج إبراهيم حَنَى الفقر ظهره، تلفح بعباءة الحلم الذى راوده، جاء من آخر الصعيد حتى يُعمِّر سيناء ويُحسن من معيشته، بعدما باع ميراثه (3 قراريط) فى مسقط رأسه، ومن 28 عاماً اشترك مع إخوته الستة واستصلحوا 15 فداناً فى «المغذى الرئيسى»، فى العاشرة صباحا توجّه الرجل الستينى لقضاء إحدى حاجاته، فوجئ بشقيقه يهاتفه ويخبره بأن شقى عمرهم يذهب جفاء، والبلدوزر يقتلع الأخضر كله، هرول «إبراهيم» إلى أرضه حتى رأى الزرع الذى نبت بين أحشائها تساوى باليابس، خرّ جالساً، العضلات التى احتملت تعب السنوات الماضية تفتتت أعصابها، عيناه زائغتان بين النباتات تحتضنها آهاته المكتومة، لم ينتبه إلا لصراخ رجل ستينى إلى جوارهم يتوسل إلى القائمين على الاقتلاع بأن يتركوا الأرض حتى يقتلعوها هم ويدبروا معيشتهم، حتى استجابت له الآلات.
الأهالي يقطعون الأشجار لبيعها
«شجرة مربيها من 28 سنة، مش هاين علىّ أقطعها ولا حتى أشيل منها عُرف واحد»، لم يقوَ على بيع ما تم اقتلاعه من أشجار إلى تجار الخشب الذين رأوا أن الأشجار متكسرة ومردوم عليها ولا تصلح، حتى طالبوه باقتلاع أشجاره سليمة، فحاجته تستدعى ذلك وأحاسيسه لا تقوى، فيظل ينتظر الآلات تقتلع الباقى بنفسها حتى يبيعه وإن خسر.
سيناء ليس بها تمليك؛ لذا روى الحاج إبراهيم أنهم يعتبرون «واضعى يد»؛ لأن الحكومة أخبرتهم بأن أرض سيناء لا تُمَلّك، وبرر ذلك بأنهم يخشون تمليكها فيبيعها الأهالى إلى أغراب يستوطنون البلد، فيعتبر وجودهم «تقنيناً» أو إثبات حالة بأنهم أصحاب هذا المكان، بدليل حصولهم على الأراضى من «عرب» كما اشترط جهاز تعمير سيناء، بضرورة الحصول على عقد الشراء من «واحد عرباوى»، أهل البلدة الأصليون الذين ما عاد وجودهم طاغياً لكثرة بيعهم للأرض لآخرين جاءوا من محافظات أخرى.
وعلى بعد خطوات من الأرض، وعلى شط الترعة (المغذى الرئيسى)، تظهر أطلال منزل من الركام وكأنه قطعة من غزة على أرض مصرية طالها قصف قوات الاحتلال للتوّ، وإلى جوارها يقف أحمد جودة، بجلبابه البنى ووجه أمالته الشمس، يرنو إلى المنزل المتهدم، تصارع عيناه الدموع، وعلى مبعدة من وقفته تحاول فتاته الصغيرة الصعود فوق ركام الطوب، ما زالت متعلقة بمنزلها القديم، تلهو وتلعب على ما تبقى منه، وهو يقف ثابتاً يتتبعها بنظراته، شاخصاً منتفخ الأوداج لا تغمض له عين.
يحاول ابن مدينة الشرقية بالكاد الوقوف باتزان على كسرات الطوب الباقية من منزله، يقول: «جيت هنا من 25 سنة، بنينا وقعدنا واستصلحنا، كان معانا فدان أرض فى الشرقية، بعناه واشترينا 5 فى الصحرا، وأبويا مات واندفن هنا»، يتذكر الرجل اليوم الموعود بعد خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى جلس يتابعه أمام شاشة التلفاز، بعدها بأيام قلائل جاءت الجرافات ومعها قيادات من الجيش وطالبته بالرحيل عن أرضه خلال 24 ساعة «اشتغلت وشقيت عشان أبنى بيت لعيالى التلاتة والبنت الصغيرة، لسه ما بتش فيه ليلة، والنهارده بهده بإيدى»، يهدم «جودة» وبقية سكان «الأبطال» منازلهم بأيديهم، ليستفيدوا بما قد يخرج منها من حديد مسلح قد يساندهم فى محنتهم، فى الوقت الذى رفضت فيه الدولة، التى تنتزع منهم أرضهم، تعويضهم أو نقلهم إلى مكان آخر يعاودون فيه الكرّة ويستصلحونه من جديد.
هدم منزل أمام أصحابه
بظهره المحنى، يتحدث متذكراً حين ذهب لصندوق الاقتراع لانتخاب «السيسى»، ولم يخطر على باله أن يأتى عليه ذلك الاختيار بالخراب له ولأسرته «مش هقف قدام الجيش»، ورغم ذلك فهو مستعد ليعود ويعمل من جديد، لكن فى أرض أخرى توفرها له الحكومة بديلاً عن قريته الأثيرة، يقدر «جودة» خسارته حتى الآن بمليون ونصف المليون جنيه، يحسبها على أصابع اليد «5 فدادين» كل منها يثمَّن بـ200 ألف جنيه، ومنزل تكلف بناؤه 650 ألفاً، ورغم ذلك كل ما يدور فى خلده «أمى اللى عندها 70 سنة هروح بيها فين؟».[SecondQuote]
«جودة» يجد فى قريته أزمة أكبر من تلك التى تشابه الوضع؛ فـ«النوبة» التى تبعد مئات الكيلومترات عن «الأبطال»، وغمرتها مياه النيل ضمن مشروع السد العالى وتهجّر أهلها، كان لها بديل آخر وأرض أخرى، ووعود من الدولة بإعادتهم، لكن حسب وصفه فإنه أسوأ حالاً وأضل سبيلاً، فهم لا يعرفون إلى أين ستنقلهم الأقدار، وترفض الدولة تعويضهم أو توفير مكان آخر لنقلهم فيه، يقول: «النوبة راجعين مكانهم تانى، لكن إحنا هنترمى فى الشارع، وإحنا أسوأ، بنشيل بيوتنا ولا لينا بيت تانى ولا أرض تانية، وبهدم بيتى بإيدى عشان أقدر أستفيد من شوية حديد، حاسس إنى بكسّر فى عضمى بنفسى».
طفلان يجلسان على ركام منزلهما المتهدم
على مسافة صغيرة من المنزل المتهدم، تتابع «أم كريم»، شقيقته، عاملاً يهدم سطح منزلها، تتجه لأحد العمال يقطع الأشجار بالمنشار، تطالبه بأن يبقى على إحداها ليستظلوا بها حتى موعد الرحيل، وسط صراخ وعويل النساء وبكاء الأطفال على منزل عاشوا وتربوا فيه، والآن يخرجون منه إلى مصير مجهول، تعدل من وجهتها إلى المنزل وما تبقى منه من جدران وتقول: «ده شقى عمر أخويا طول السنين عشان يبنى بيت يعيش فيه هو وعياله، وفى النهاية خراب ودمار».. تنتقل بذاكرتها حين كان ينقل شقيقها الطوب بالحمير، ويصعد وعلى ظهره الأسمنت والطوب لبناء المنزل، تغالب عيناها الدموع، وإيماء إلى جدران المنزل: «خربوها فى 5 دقايق، يرضى مين بيت اتبنى بشقى العمر يروح فى ثوانى كده؟».
سيدة تبكي بعد هدم منزلها
على الجانب الآخر من شط الترعة، جاء أشقاؤه الأربعة لزيارته فى قرية الأبطال، حتى راقت لهم الصحراء ومياه ترعة «المغذى الرئيسى»، وقد اتخذ قراره منذ 25 عاماً أن يستوطن هذه الأراضى، يحتبس الدمع وكلماته تبكى، ثوانٍ يقضيها مغمض العينين فوق أطلال منزله الذى هدمه بيده وهدم جسمه معه، يتذكر الحاج طلعت عبداللطيف تفاصيل بيعه لنصف الفدان والبيت اللذين كانا له فى الشرقية، دفع 30 ألف جنيه وقتها، حتى يجالس إخوته ويستصلح معهم.
بنيته القوية استسلمت، بعد 53 عاماً من «المعافرة» فى الفلاحة، كجيرانه اعتاد على بناء منزله طوبة طوبة حتى تكلف بناء وتشطيباً 100 ألف جنيه، وزوّج به ولدين، ومن خيرها جهّز الابنة، وما كاد ينتهى من جهاز الأخيرة حتى جاء «الخراب»، كما وصفه، فاقتلع الأشجار التى تربَّت مع أولاده، وأصبح «الأسفلت» رفيقه، منذ أن استأجر بيتاً فى القرية بـ700 جنيه، ولا يدرى كيف سيقوى على سدادها الأشهر المقبلة وهو وأسرته المكونة من 12 فرداً دون عمل بعد ضياع الفدانين والبيت، وتوجههم إلى منزل مكون من غرفتين، لا يسع الجميع.
«مش معايا أشترى ولا معايا أجيب طوب»؛ لذا لجأ الرجل الخمسينى إلى هدم منزله الذى بلغت مساحته 200 متر والاحتفاظ بالطوب لعله يجد مكاناً يبنى فيه من أول وجديد، لا يطلب شيئاً غير مأوى «يتداروا فيه»، كما يعبر، منتظراً الوعود التى سمعها من رئيس الوحدة المحلية بالقنطرة بأنهم سيخصصون لهم فدانين فى قرية العبور، تعويضاً عما حدث لهم ولكن دون نتيجة تذكر، يصمت حتى يخرج بكلماته: «والله حرام، حرام العذاب اللى إحنا فيه ده».
عمليات تجريف الأرض الزراعية واقتلاع أشجار المانجو تمهيداً لحفر القناة
لم يلتحق بمدرسة، لكن الخبرة الحياتية أثقلت طموح الشاب الثلاثينى، الذى ورث الفلاحة من والده الستينى، جاء «صابر» من قرية الهواشمة فى الإسماعيلية برفقة إخوته عام 1992 ليعيشوا مع والدهم الذى سبقهم إلى «الأبطال» بنحو 4 سنوات تقريباً، صدّقوا حكاياته عن جمال الطبيعة وأن المستقبل هناك، فاستصلحوا 5 فدادين، أمام أعين كل المسئولين، ملامح الشاب الثلاثينى مندهشة مما يتداوله المسئولون عن أنهم مخالفون للقانون وهم من اكتملت بنياتهم على مرأى ومسمع من الجميع.
يرفض «صابر» وأسرته الرحيل: «هنروح فين؟»، السؤال الدائم الذى يردده ويسمعه الجميع، ينظر إلى ما تبقى من أرضهم، ويتساءل ماذا كان سيحدث إذا أخبرهم المسئولون بذلك من سنة أو أكثر ليعدّوا العدّة لهذا اليوم ويتدبروا أمرهم بينهم، فلا يرى أن أهل البلدة يكمن فيهم الخطر؛ فهم «أغلب من الغُلب»، ويستكمل حديثه الدائر بأن كل شخص هناك يعيش على رزق اليوم بيومه، لا يتمنى غير الحفاظ على بيته وأرضه «ده أكل عيشنا».
بالقرب من الأثاث المنزلى المترامى على طرف الترعة يقف ضياء الدين مهدى، ابن مدينة الإسماعيلية، الذى جاء إلى «الأبطال» منذ 25 عاماً، لم يبالِ بعمليات الحفر، لكنه يطالب «السيسى» بتمكينهم من وادى شعير، الذى يقع بالقرب من قرية الأبطال بوسط سيناء، تتوافر فيه مياه قادرة على زرع 10 آلاف فدان، ولا يطالب سوى بتمكينه من الأرض و2 من المواتير لرفع المياه وحفارين، ليعيدوا الكرة فى التعمير والبناء، ليبنوها مدينة جديدة للأبطال، عوضاً عن أرضهم المنتظر أن تغمرها مياه القناة.
يقارن «مهدى» بين وضعهم الآن وما طالها من خراب وما يحدث فى غزة: «اللى هناك بيته بيتهد وبيموت فيه بقية أهله وبيرجع عارف مكان بيته فين، وبيبنيه تانى من جديد، لكن إحنا مش عارفين لنا مكان بيت ولا أرض»، لا يفكر سوى فى الزرع؛ فهو فلاح ابن فلاح، لا يعرف عملاً جديداً أو وظيفة: «سينا تلت مصر ومش عارف آخد فيها فدان أرض أزرعه بدل أرضى اللى هتروح فى القناة؟!».
مزارعو قرية الأبطال يروون لـ"الوطن" معاناتهم
«راضوا البدو وعمّروا سينا»، قالها الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وكانت تتناقل على ألسنة أهل القرية؛ فهم بالفعل راضوا البدو، واستندت هيئة التعمير والإسكان إلى ما وقع من عقود بينهم وبين أهل المنطقة من البدو حين اشتروا ما يمتلكونه الآن بمئات الآلاف، ليقننوا أوضاعهم: «عيشنا من غير ميّه ولا نور، زرعنا وقلعنا، ولو أبويا عايش كان زمانه مات من الحسرة على الأرض».
أمام منزل يحتفظ بكامل هيئته وإلى جانبه يمتد الخراب، داخل جلبابها الواسع تكاد تختنق من حمول تُكبّل قلبها، الحروف تُزيد الوجع وتُنهك الجسد الهزيل، أصوات شاردة تخرج فى اتجاه آلات الحفر تستغيث من الرمال، قدما الحاجة نجلاء القصيرتان سارتا طويلاً وراء حلم بدأ بمعاناة العيش دون كهرباء ومياه ويكاد ينتهى بلا مأوى مطلقاً.
منذ 25 عاما أُقيمت الأفراح، تشابكت يدا «نجلاء» وزوجها سيد القطاوى، من بلدة أبوسميحة، التى شبَّ فيها زوجها فى الإسماعيلية، إلى قرية أبوخوصة التابعة لقرية الأبطال بنفس المحافظة، رمال الصحراء شهدت همسات أحلامهما، زوجها الذى كان يعمل باليومية عند رجل صعيدى ظل يتعثر به الحال حتى أقدم على بيع أرضه شيئاً فشيئاً، فيسعى وراءها «سيد» ويشتريها كلما ادّخر شيئا، تحمّلت غياب المياه والكهرباء لمدة 15 عاماً، حتى رفض أهلها تناول الطعام أو الشراب عندها؛ لأنها من مياه ترعة «المغذى الرئيسى»، ظلت «المعافرة» حتى امتلكا 5 فدادين قبل أن يُولد أول أبنائهما، وبعد إنجاب الخمسة، قررا تأمين مستقبلهم فشرعا فى بناء بيت على مساحة 350 متراً تقريباً، تكلّفت زخرفته وتشطيبه 170 ألف جنيه، غير الأساس، حتى تكلّف «البيت الريفى»، اجتماعياً وظاهرياً، 500 ألف جنيه، على مدار 8 سنوات.[ThirdQuote]
تنتظر «نجلاء» موسم المانجو من العام للعام؛ فهو الذى أوقفها هى وزوجها على أقدامهما حتى بنيا بيتا يؤوى رجالاً، تمرنوا على حمل الفأس منذ نعومة أظافرهم، كان دائماً «وش السعد» حتى هذا الموسم، فبعده «حلّ الخراب»، كما ترى السيدة الأربعينية، التى لم تفرح بحفيدها من ابنها الأكبر، كما حلمت قبل أن يأتى للدنيا منذ يومين.
تتحدث عن منع حيازة الأسمدة والكيماوى منذ 3 سنوات، التى كانوا يحصلون عليها من الجمعية التعاونية، دون سبب، لم تدرِ أنها بداية النهاية، تحادث زوجها هاتفياً وهو فى القاهرة، يستغيث بمسئولى وزارة الرى الذين يتبعهم حتى يحصل على سكن من الوزارة، بدلاً من البيت الذى استأجره هذه الأيام بـ300 جنيه بعيداً عن مكان الحفر فى الإسماعيلية، ولا يتسع لأولاده الذين اعتادوا على «الوسع» فيتراكمون فى غرفتين وصالة.
تتحسّر زوجة «القطاوى» على البناء بالطوب الأحمر؛ فهو غير صالح لإعادة الاستخدام مثل الطوب الأبيض الذى استعمله جيرانها؛ فهم يأخذونه ليبنوا به بنياناً آخر أينما يجدون، على عكس الطوب الأحمر، فكلما زاد الهدم احتضنت السيدة الأربعينية جارتها وبكيا معاً، وهى تردد: «20 سنة جيران وهنفترق، حسبى الله ونعم الوكيل، ربنا ينتقم منهم»، جاءت «نجلاء» وزوجها فردين فقيرين، خرجا كما جاءا فقيرين لكن عددهم 9 أفراد فى الأسرة، لا تريد أم الأولاد الخمسة إلا بيتاً يؤويهم وإن كان فى الجبل، ويبدأون فيه من جديد، لكن لن يشردوا دون مأوى.
ويقول إبراهيم السيد، نجل الحاجة نجلاء، شاب فى العقد الثانى من عمره: «إحنا عايشين جنب القناة وبنحافظ عليها، مفيش غريب يقدر ييجى ويضر القناة من عندنا».
وقبل أيام قلائل، وأثناء حصاد ثمار المانجو، شاهد «إبراهيم» ووالده الجرافات تزيل الشجيرات، فاتجه ووقف أمام الجرافات، فرد عليهم أحد القيادات العسكرية: «اللى هيقف قدام الشغل هسيبه»، واستمرت عملية الإزالة، وضحاياها من الشجر فقط، فسقطت عمته حين رأت منزلها يُهدم أمامها مغشياً عليها ودخلت فى غيبوبة سكر لم تفق منها حتى الآن.
«عمرى من عمر الشجر».. يتحدث «إبراهيم»، صاحب الـ18 عاماً، عن الزرع الساقط أمامه، ويبيعه حطباً لا يتعدى سعره 200 جنيه لكل شجرتين «شجرة مزروعة من 25 سنة بـ100 جنيه فى سوق الحطب».
«أرضى اتجرفت وبيتى اتخرب».. بهذه الكلمات تحدث سالم محمد، «أى حد فينا ممكن يعمل أى حاجة، إحنا فى حالة خراب ودماء».. فالتشرد حل عليه هو وأولاده وأحفاده، يكرر: «إحنا مصريين» بكل انفعال وبصوت غاضب أكثر من سبع مرات، ومن خلفه تظهر أطلال منزل تهدَّم، ومزرعة جرفتها قوات الجيش.
«أهل المكان مالهمش مكان فى وظائف القناة الجديدة، اللى اتخرب بيوتهم ما يشتغلوش».. يتحدث «حسام» ورأسه لا يقوى على ترك الحائط الذى يحمل ختم قرارات الهدم المفاجئة، يتعجب من أن الوظائف التى أتيحت فى مشروع القناة الجديدة للقاصى غير مسموحة للدانى، حينما ذهبوا للعمل هناك بعد اقتلاع أراضيهم وأُخبروا بأنهم ممنوعون من الشغل هناك لصالح شركة المقاولون أو الجيش، يبرر الموقف بأنهم يخشون من أهل المكان إثارة شغب هناك، على الرغم مع أن الناس هنا «غلابة»، كما يعبر، بالنسبة للبلد المشروع حلو، وبالنسبة لأهالى المغذى الرئيسى «إعدام».
توجّهت المحامية شيرين الحداد إلى القرية، وزارت أهلها للوقوف على معاناتهم، حتى فوضوها بأن ترفع دعاوى قضائية باسمهم، وهو ما فعتله أمس، حين اختصمت رئيس هيئة قناة السويس ووزير الزراعة، بصفتيهما، تتهمهما فيها بالمسئولية من تضرر أهالى قرية الأبطال فى محافظة السويس من مشروع تنمية محور القناة الجديد.
مزارع أثناء اقتلاعه لإحدى الأشجار
وقالت المحامية إنها أقامت نحو 30 دعوى فى محكمة الإسماعيلية الكلية، تطالب فيها بالتعويض وإيجاد أماكن بديلة لأهل القرية لما أصابهم من ضرر جراء ذلك، مشيرة إلى أن القضية من الممكن أن تستغرق عاماً؛ لأن القضاء «بيطوّل»، على حد تعبيرها، مؤكدة أنهم سيتنازلون عن القضايا فى حالة صدور قرار سريع من رئاسة الجمهورية بتعويض الأهالى.