واضح مما أسلفناه أن العفو قد شمل محكوماً عليهم فى جرائم جنائية خطرة، منها القتل العمد والشروع فيه، وإحراز وحيازة الأسلحة النارية والذخائر، وبعضها بقصد الاتجار فيها، وجرائم السرقة والخطف والتخريب والإتلاف، وكلها من أخطر الجرائم الجنائية.
وفى غير إعلان، ولظروف لم تتصل بالناس، ربما فى زيارة الرئيس السودانى لمصر، صدر فى 3 سبتمبر 2012 قراران جمهوريان، كلاهما بالعفو عن سودانيين، فأعفى القرار 155 لسنة 2012 مائة وعشرين مواطناً سودانياً، ولحقه بنفس اليوم القرار 157 لسنة 2012 بالعفو عن واحد وعشرين مواطناً سودانياً، ولا اعتراض على مجاملة الإخوة السودانيين أو الرئيس السودانى فيما يتصل بالجرائم الصغرى لمن دخلوا مصر من غير المنافذ الشرعية أو وجدوا فى مناطق ممنوعة، إلاّ أنه تلاحظ أن العفو شمل جرائم كبرى وعقوبات غليظة وفى أمور تمس صميم أمن البلاد، فمن المعفو عنهم من قضى بعقابهم بعقوبات السجن عن حيازة وإحراز أسلحة نارية وبنادق آلية وذخائر واستعمال القوة والعنف والوجود بمناطق عسكرية محظورة، فضلاً عن حيازة أجهزة اتصال لا سلكى وأجهزة للبحث عن المعادن فى باطن الأرض، وكلها جرائم تمس عصب الأمن القومى المصرى، وفى مناطق حدودية يجب أن يسود الانضباط دخولها والتعامل فيها!
والعفو عن العقوبة له غايات وضوابط يجب الالتزام بها، فهو باب لا يتسق مع النظام القانونى للدول، إذ بمقتضاه يخول لشخص مصدر القرار إبطال آثار الأحكام القضائية الصادرة عن محاكم الدولة، وينطوى على خرق مبدأ الفصل بين السلطات بإخلاله بقوة الحكم وباستقلال القضاء الذى أصدره، ثم هو يمس بالصفة اليقينية للعقوبة، ويفتح باباً لعدم الخضوع لها، وقد يكون هذا الخضوع لازماً وواجباً.
وسلطة رئيس الدولة فى العفو ليست سلطة تحكمية، وإنما هى تمارس على أساس من ذات الاعتبارات التى يسترشد بها المشرع والقاضى حين يسن أولهما العقوبة، ويوقعها أو يطبقها الثانى فى إطار ما يحكم القاضى من أدلة الإدانة والبراءة، ومواءمة وتفريد العقوبة إن حقت الإدانة. وعلى ذلك فإن العفو الرئاسى محكوم بوجوب موافقته لمصلحة المجتمع، ووجود مصالح حقيقية تبرر هذا العفو، والذى عنى القانون بوضع ضوابط لممارسته تحديداً وتقنيناً له.
قبل أن نطوى ملف عفو رئيس الإخوان الذى أطلق فيه لنفسه الحبل على الغارب للإفراج عن مساجين الأهل والعشيرة، بل ومحكوم عليهم بالإعدام، من اللازم الإشارة إلى أن كافة الدساتير المصرية بدءاً بدستور 1923 وما تلاه، تتفق على أن العفو الشامل لا يكون إلا بقانون، واستكمل قانون العفويات المصرى بعض الضوابط، ولكن قرارات عفو رئيس الإخوان ضربت بكل ذلك عرض الحائط.
على طول السنين، من أيام الخديو والملك، وفى عهود محمد نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك لم يحدث أن استخدم حق أو سلطة العفو إلاَّ فى أضيق الحدود، بل فى حالات فردية قليلة بل نادرة، إلاَّ أن الفترة من يوليو 2012 حتى سقوط حكم الإخوان، قد شهدت انفتاح الشهية انفتاحاً غير مسبوق فى الضرب الأول من ضروب العفو، وهو العفو عن العقوبة أو تخفيفها أو إبدالها، وكلها بقرارات جمهورية صدرت فى يوليو 2012، فيما عدا القرار 122 لسنة 2012 فصدر فى 16 أغسطس 2012 بعد إلغاء الإعلان الدستورى المكمل وإصدار آخر من الرئيس الإخوانى بسلطات أعطاها الرئيس لنفسه فى 12 أغسطس 2012.
وأول هذه القرارات ظهوراً، وإن كان ثالثها نشراً، هو القرار الجمهورى 75 / 2012 ونشر بالجريدة الرسمية فى 26/7/2012، وتضمن 27 اسماً، حيث نصت مادته الأولى بالعفو عن العقوبة الأصلية لثلاثة محكوم عليهم بالإعدام، أحدهم فى القضية 745 لسنة 1993 (عن قتل ضابط شرطة) وآخر فى القضية 419 لسنة 1994 (عن قتل ضابط شرطة)، بينما تضمنت المادة الثانية العفو عن العقوبة الأصلية أو ما تبقى منها لثلاثة وعشرين محكوماً عليهم فى قضية تفجيرات الأزهر سنة 2005، وفى القضية 419 لسنة 1994 (عن قتل لواء الشرطة محمد عبداللطيف الشيمى مدير أمن أسيوط). وفى القضية 3/1999 جنايات عسكرية عن محاولة اغتيال مبارك، وشمل العفو الشيخ وجدى غنيم، وآخرين من الإخوان المسلمين منهم يوسف ندا (هارب)، وإبراهيم منير، وعلى غالب همت سورى (هارب)، وفتحى أحمد الخولى (هارب)، وتراوحت الأحكام بين المؤبد والسجن لمدد مختلفة، بينما نصت المادة الثالثة على العفو عن عقوبة الإعدام المحكوم بها (فى 10/5/2005) على المدعو / شعبان عبدالغنى هريدى لتكون السجن لمدة 15 سنة. وقد خلا القرار من بيان الاتهامات، ولكن نشرت بعض الصحف أنها دارت حول القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، والدخول فى اتفاق جنائى غرضه القتل، والشروع فى القتل، والخطف والسرقة بالإكراه، وإتلاف الممتلكات، وتعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، فضلاً عن اتهام البعض بالانضمام إلى جماعة أسست على خلاف القانون.
وفى 19 يوليو، صدر ونُشر القراران الجمهوريان 57، 58 /2012، وتضمن القرار 57 لسنة 2012 العفو عن عدد هائل من المحكوم عليهم، فنصت مادته الأولى على العفو عن العقوبة الأصلية أو ما تبقى منها وعن العقوبة التبعية لعدد / 523 محكوماً عليهم بعقوبات لم يبينها القرار، ونصت المادة الثانية على العفو عن العقوبة الأصلية لعدد / 49 محكوماً عليهم بعقوبات لم يبينها القرار، ونصت المادة الثالثة على تخفيف العقوبات لعدد / 16 محكوماً عليهم. والمجموع 588 من المحكوم عليهم، وفيما عدا المادة الثالثة، فإن المادتين الأولى والثانية لم تبينا العقوبات الأصلية المحكوم بها، ولكن ثابت بالكشوف المرفقة بالقرار أن الجرائم التى أدينوا قضائياً بها تراوحت بين حيازة وإحراز أسلحة نارية، وجرائم سرقة، وجرائم قوة وعنف بدون سلاح، وجرائم تخريب وإتلاف عمدى، وجرائم حيازة وإحراز أسلحة بيضاء، والمجموعة الأخيرة التى شملتها المادة الثالثة مدانة بحيازة أسلحة نارية وذخائر بكميات تنبئ عن الاتجار، وبعض الجرائم المتنوعة التى لم توضحها الكشوف المرفقة بالقرار الجمهورى.