كما حدث مرات ومرات على مدى السبعين عاماً الأخيرة؛ فقد اندلعت الأزمة مجدداً بين إسرائيل والفلسطينيين، وبات العالم مشدوداً على أطراف أصابعه فى ملاحقة تطورات العدوان الإسرائيلى والمواجهة الفلسطينية، ولا يبدو أن الأمور تتجه إلى التهدئة حتى كتابة هذه السطور، ولا يبدو أنه بالإمكان توقع حجم الخسائر المحتملة لدى الجانبين، أو توقع تأثير النزاع الحالى فى المراكز القانونية والمعنوية لطرفيه.
تتوالى ردود الفعل الإقليمية والعالمية تعليقاً على الأحداث، وتتفاوت مواقف الحكومات والشعوب بفعل التطورات، وفى بعض الأحيان تتغير المواقف السياسية والتعليقات الدبلوماسية والتحركات السياسية كما تتغير أيضاً مؤشرات الرأى العام وتوجهات الجمهور.
ومع ذلك، فيمكن القول إن تلك الأزمة كانت كاشفة، وهى سلطت الضوء على حقائق أو نفضت الغبار عنها أو التى أعادت الثقة فيها، وفى المقابل فربما أيضاً نجحت فى تفكيك أفكار ومقولات أو زعزعت اليقين فيها، رغم أن البعض كاد أن ينزلها موضع الحقيقة.
أولاً: القضية الفلسطينية ما زالت مهمة
اعتقد البعض، فى مرحلة ما بعد عقد الانتفاضات العربية، أن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية إقليمية ودولية، وأنها فقدت هذا الزخم والاهتمام والموقع المركزى الذى احتلته لعقود لمصلحة قضايا أخرى راحت تنشغل بها دول المنطقة.
لا يمكن دحض فكرة أن موقع القضية الفلسطينية فى قائمة الأولويات العربية تراجع، وأن قضايا أخرى احتلت مواقع متقدمة عليها، خصوصاً بعدما تحللت بعض البلدان أو فقدت سيادتها على ترابها أو دخلت فى معارك أهلية على وقع الانتفاضات، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت أن لتلك القضية موقعها المهم ضمن قائمة الأولويات، وإن كانت تأخرت فى الترتيب والأهمية.
ثانياً: المبادرة العربية 2002
تستعيد مبادرة السلام العربية، التى تم إطلاقها فى العام 2002 من العاصمة اللبنانية بيروت، أهميتها، بوصفها مرتكزاً عربياً وجيهاً ومتوازناً وقابلاً للتمسك به والبناء عليه. فى هذا المبادرة أعلن العرب أنهم يريدون السلام، وأنهم لا يمانعون فى إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، لكنهم أكدوا أن هذا يجب أن يتم بعد استرداد الحقوق العربية، وإعطاء الفلسطينيين حقهم المشروع فى إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية.
ثالثاً: الغرب ليس كتلة واحدة معادية للفلسطينيين
أظهرت ردود الفعل المتباينة من العواصم الغربية أن الغرب ليس كتلة واحدة تداهن إسرائيل وتنحاز لها على حساب الحق الفلسطينى، بل تم تحقيق اختراقات مهمة فى هذا الصدد، وسيمكن عبر سياسات حاذقة ورشيدة أن يتعاظم الحس الغربى المساند للحق الفلسطينى، لكن هذا الأمر يحتاج إلى جهد دائب ومستديم، يتركز فى حزم من السياسات والعلاقات العامة والاقتراب العقلانى.
رابعاً: فى الحرب يكسب المتشددون
ليس هناك ما هو أفضل من إشعال حرب لإنقاذ قائد مأزوم على شفا هاوية. فى الحرب تتوحد الشعوب خلف قائدها مهما كان فاسداً أو ضعيفاً أو عديم الكفاءة. الحرب تحب القادة المأزومين، وهؤلاء يقدرونها لأنها تغطى على أزماتهم. فى اشتعال الحرب بين إسرائيل وغزة فرصة كبيرة لـ«نتنياهو» و«حماس».
خامساً: الرأى العام فاعل أساسى
لا تُكسب الحروب فى ميادين القتال فقط. لا تملك الصواريخ القدرة الكاملة على حسم هذه المنازلات؛ إذ يلعب الرأى العام دوراً لا يقل أهمية فى تغيير مجريات الصراع.
لهذا السبب، أمكن رصد الأهمية الكبيرة التى توليها أطراف الصراع للرأى العام المحلى والإقليمى والدولى، ولعبت وسائل الإعلام الجماهيرية ومنصات «السوشيال ميديا» أدواراً رئيسية لا تقل أهمية عن أدوار المدافع والصواريخ، بل هذه الأدوار تكتسب أهمية أكبر، حين تدفع مسئولين فى دول كبرى إلى اتخاذ قرارات بعينها أو تغيير مواقفهم للتوافق مع اتجاهات الجمهور.
سادساً: فلسطين بلا قائد
لا يمكن أن ينجح شعب فى معركة الاستقلال والتحرر الوطنى من دون قيادة. وفلسطين اليوم تبدو بلا قائد يمكن أن يجمع الشعب على أهداف وطنية محددة، وأن يتحلى بثقة جمهوره لكى يخوض قتالاً متفقاً على وجوبه، أو يجترح هدنة تحتاجها المصلحة الوطنية، أو يرسى سلاماً يمكن أن يعيش.
أنكى ما فعله الاحتلال الإسرائيلى بالفلسطينيين منذ غياب «عرفات» هو ذاته أنكى ما فعله الفلسطينيون بأنفسهم: حرمان الشعب من القيادة.
«أبومازن» هو الخاسر الأكبر من هذه المعركة، و«حماس» بالطبع قادرة على إشعال القتال والمضى فيه، وربما إحراز انتصارات تكتيكية، لكنها بالتأكيد ليست قادرة على التمركز فى موضع القيادة لأسباب عديدة بعضها يخص الداخل والآخر يخص الخارج. من دون تصليب قيادة فلسطينية ستظل فلسطين بعيدة عن إدراك الحل أو الصمود للاستهداف.
سابعاً: الحرب وسيلة الفلسطينيين لإدامة القضية
تلك معضلة خطيرة على المستويين الأخلاقى والسياسى، فقد تواطأ العالم أو غض الطرف عن تلك المعضلة كثيراً. لم يبق للفلسطينيين وسيلة لإدامة قضيتهم أو تذكير العالم بها أو حلحلتها سوى عبر ضجيج الحرب. تجريد القضية من أسباب الحل السياسى يعنى فتح الباب للعنف، وتلك مسئولية دول المنطقة والعالم أجمع.
ثامناً: لمصر دور لا غنى عنه
يمكن لمصر أن تلعب دوراً جوهرياً فى حل تلك الأزمة، ليس فقط لأن «بايدن» طلب إليها القيام بذلك، ولكن لأنها تتمركز أخلاقياً وسياسياً وجيواستراتيجياً فى الموقع المناسب للقيام بالدور المطلوب لحقن دماء الفلسطينيين والدفاع عن قضيتهم.