جاء صوته على الطرف الآخر وأنا أسمع هدير القصف المدفعى الإسرائيلى يرعد فى سماء غزة، بدا متفائلاً رغم الخطر، كنت أشعر بالتوتر والخوف على ما ينتظر أهلنا الذين يقبعون تحت وطأة الغارات والقصف المتواصل، وجدته يشد من أزرى بدل العكس! فوجئت بصلابة وثبات الروح، والأيدى القابضة على الجمر، فلم يعد هناك ما يخسره أهالى قطاع غزة، بعد أن فقدوا كل شىء! حياتهم الأشبه بالجحيم. والآن يحتفلون بعيد الفطر المبارك على وقع الغارات وقصف المدافع.. قال لى صديقى بثقة ولسان حاله يعبر عن مشاعر أهلنا فى القطاع، ونبرة صوته يملأها التحدى والشغف! إنها الحرب الأكثر شرفاً من الحروب الثلاث الماضية، حرب استرداد كرامتنا وعزتنا، نخوضها ونحن مطمئنون بأننا لن ندفع ثمناً مجانياً، لم يبق لدينا ما نخشاه، لا طريق أمامنا إلا الصمود أو الموت.. قلت له إن الثمن الذى يدفعه القطاع فادح، من الشهداء والدمار فى معركة غير متكافئة، غيَّرت ملامح الجغرافيا، كان رده أن الحياة لا تستقيم دون شرف أو كرامة، سيموت الآلاف.. فليكن، حتى لو سقط مليون شهيد، فالأمر يستحق، لقد سئمنا ولابد أن يتغير الوضع المهين الذى نعيشه، العالم يتفرج، ونحن دائماً ندفع الثمن.. فما الجديد!.
الحرب على غزة كانت كاشفة لعمق ارتباك دولة الاحتلال العنصرية، التى تتغنى بتفوقها العسكرى وقدراتها الهائلة، تلك النظرية فشلت أمام صواريخ المقاومة المتواضعة التى وصلت إلى العمق الإسرائيلى، وفاجأت قياداتها، وقضّت مضاجع سكانها، وغيرت قواعد اللعبة، فقد أظهرت مدى الهشاشة التى تعيشها دولة لقيطة ولدت فى غفلة من التاريخ، دولة تمتلك قوة عسكرية ضخمة، تغلق مطارها الدولى الرئيسى تحت وطأة الصواريخ التى تطلقها فصائل المقاومة! بعد فشل منظومة القبة الحديدية فى صد زخمها، وتعيش الرعب الذى بدا واضحاً فى الردود العسكرية العنيفة التى تدك غزة، وتهدم البيوت على أصحابها، تقتل الأطفال والنساء بحجة أن حماس تطلق صواريخها من الأحياء السكنية! وتستخدم أهالى القطاع كدروع بشرية، وهو المبرر الذى دأبت على ترويجه فى كل حروبها ضد غزة، لتسقط أكبر عدد من الشهداء، كرد موجع وضاغط على السكان والمقاومة، غير أن ذلك لم يوقف رشقات الصواريخ المنطلقة من غزة! ولم تهتز ثقة سكان القطاع فى المقاومة، رغم سقوط الضحايا والدمار والخراب الذى لحق بهم. لأول مرة ينتفض عرب 48 لإخوانهم فى الضفة والقطاع وبسبب العنصرية التى تمارسها إسرائيل ضدهم، اندلاع العنف بين العرب واليهود فى الداخل أثار مخاوف إسرائيل، وشكَّل مفاجأة مدوية وصدمة للحكومة، ودق ناقوس الخطر من نشوب حرب أهلية لن تستطيع إخمادها.
صحيح أنه لا يوجد تكافؤ فى القوة العسكرية بين المقاومة وإسرائيل، وهو أمر بديهى، جعل الكثيرين يسخرون من تلك المقامرة بأرواح الناس، لتحقيق مكاسب ضيقة تصب فى مصلحة حماس، لكن الحقيقة أن صواريخ المقاومة فعلت فِعلها، فإسرائيل ما بعد الحرب لن تكون كما قبلها، وما لا يدركه الجميع أن المقاومة الفلسطينية لا يمكن اختزالها بحركة حماس، وأن الشعب الفلسطينى كله يتصدى للممارسات العدوانية والعنصرية الإسرائيلية، التى لم تترك له خياراً آخر. التهجير القسرى لأهالى حى الشيخ جراح فى القدس الشرقية من بيوتهم، واستفزاز المصلين فى المسجد الأقصى ومنعهم من الصلاة، كانت شرارة البدء لاندلاع الأحداث، الفعل دائماً يبدأ من دولة الاحتلال، فهل كان المطلوب الصمت مثلما يفعل الآخرون؟! هل يوجد ما يخسره الفلسطينيون؟ هل هناك بارقة أمل لحل قريب فى الأفق؟ بعد أن باع العرب قضيتهم فى سوق نخاسة إسرائيل باتفاقيات التطبيع المجانية، المستفيد الوحيد منها دولة الاحتلال؟! يرى الفلسطينيون أنفسهم فى قول الشاعر أبى فراس الحمدانى:
«يقولون لى بعت السلامة بالردى.. فقلت أما والله ما نالنى خُسرُ».