لم يكن أكثر المتفائلين من أبناء العالم الإسلامى قادراً على توقع انحسار الهجمات ضد صورة الإسلام والمسلمين، التى تضررت جراء أفعال بعض التنظيمات الإرهابية، وما أدت إليه من صعود صارخ لمفهوم «الإسلاموفوبيا» فى الغرب تحديداً.
فعلى مدى عقدين تقريباً، هيمن مصطلح «الإرهاب الإسلامى» على المقاربات الأمنية والاستراتيجية الغربية حيال منطقتنا، إلى حد أن قادة دول متقدمة راحوا يستخدمونه وكأنه حقيقة واقعة تخص الإسلام وليس بعض من يدّعون الانتماء إليه.
الرئيس الفرنسى ماكرون نفسه استخدم هذا المصطلح (الإرهاب الإسلامى)، خلال زيارة قام بها إلى مصر قبل نحو سنتين، بعدما كان قد استهل رئاسته لبلاده بالتأكيد أن مكافحة هذا الإرهاب تقع ضمن أهم أولوياته الاستراتيجية.
لم يكن «ماكرون» هو الوحيد بين زعماء العالم الغربى فى استخدامه لهذا المصطلح، بل سبقه زعماء آخرون مثل «ترامب» و«ميركل»، فضلاً عن قادة عدد من الأحزاب والحركات السياسية الأوروبية المؤثرة، مثل «الجبهة الوطنية» فى فرنسا، والحزب النمساوى اليمينى الشعبى، والحزب الدنماركى التقدمى، وحزب الشعب الهولندى، وغيرها. وفى مقابل هذا الإصرار على ترويج مصطلح «الإرهاب الإسلامى» واستخدام مفاعيله فى صوغ السياسات حيال العالم الإسلامى وأبنائه، راح علماء وقادة من المنطقة وخارجها يؤكدون أن الميول الإرهابية والاستهدافات العنصرية والنزعات التعصبية لا ترتبط بدين أو بدولة أو مجتمع محدد، وإنما ترتبط بسياق اجتماعى وسياسى واقتصادى معين، يمكن أن يوفر بيئة خصبة لانتشارها فى أى مكان وزمان.
وعلى سبيل المثال: فقد شن اليمينى الأمريكى المتطرف روبرت باورز هجوماً دامياً على كُنيس يهودى، فى بنسلفانيا، قبل ثلاثة أعوام، فقتل 11 مصلياً، وجرح ستة آخرين، هاتفاً: «يجب على كل اليهود أن يموتوا»، فيما اعتبر أكثر هجوم معاد للسامية دموية فى تاريخ البلاد. وقبل أيام، حلت ذكرى إعدام الأمريكى الأبيض تيموثى ماكفى، الذى ارتكب حادثة أخرى أكثر بشاعة، فى عام 1995، حين فجر المبنى الفيدرالى فى أوكلاهوما، فقتل 168 شخصاً، وأصاب 680، ودمر 342 مبنى حكومياً، فى الهجوم الذى تم تسويغه باعتباره رداً على «مجزرة» نفذتها المباحث الفيدرالية فى حق أتباع طائفة «الداووديين»، فأودت بحياة 74 منهم، قبل ذلك التاريخ بعامين. وفى يونيو 2018، اعتقلت السلطات الفرنسية أعضاء خلية يمينية متطرفة، بعدما وجهت لهم اتهامات بالتخطيط لاستهداف مسلمين، وبعد ذلك بخمسة شهور، تم توقيف ستة فرنسيين يمينيين بتهمة التخطيط لقتل «ماكرون»، حيث أعلنت السلطات آنذاك، أنها استطاعت إجهاض محاولة سابقة لقتل الرئيس نفسه، من قبل خلية مشابهة. عشية انتخابه رئيساً للمرة الأولى، قال «ماكرون» إن اليمينيين المتطرفين «العدو الأساسى ووارثو حزب الحقد»، وعلى مدى سنوات تلك الولاية واجه الرئيس تحديات جمة فرضها هذا اليمين المتطرف عليه. وفى الأسبوع الماضى، قضت محكمة فرنسية بسجن المواطن داميان تاريل لمدة 18 شهراً، بينها 14 شهراً مع إيقاف التنفيذ، بتهمة صفع الرئيس الفرنسى على وجهه خلال جولة انتخابية قام بها فى منطقة دروم جنوب شرقى البلاد. وفيما اعتبر المدعى العام خلال المحاكمة أن «تاريل» ارتكب عملاً «عنيفاً متعمداً»، ووصفه «ماكرون» بأنه «عمل منعزل لكنه عنيف وغبى»، اتفق القادة السياسيون فى البلاد من جميع الاتجاهات على إدانة الحادث واعتبروه «من أعراض المناخ السياسى المشحون».
وعندما سعت السلطات لتقصى الأسباب التى دعت «تاريل» لصفع الرئيس الذى كان يهم بمصافحته ضمن جولته الانتخابية، وجدت أن هذا الشاب ينتمى فكرياً إلى اليمين المتطرف، وأن شريكه الذى قام بتصوير مشهد اعتدائه على الرئيس بالفيديو يحتفظ فى منزله بكتاب «كفاحى» لهتلر.
يُحمّل «ماكرون» وسائل «التواصل الاجتماعى» المسئولية عن شيوع «الأجواء السياسية المسمومة»، ويتهمها بأنها أحد أسباب «الاعتياد على الكراهية»، وشيطنة الأشخاص المخالفين سياسياً تمهيداً لارتكاب العنف ضدهم.
لا تتحول الدفة من انتقاد ما سُمى بـ«الإرهاب الإسلامى» إلى تركيز المخاوف على التطرف اليمينى المستند إلى دعاوى عنصرية، فى فرنسا فقط، لكنها تتحول أيضاً فى الطرف الآخر من المحيط الأطلسى.
ففى الأسبوع الماضى، كان الرئيس الأمريكى «بايدن» يلقى خطاباً فى مدينة «تولسا» بولاية أوكلاهوما، مشاركاً فى إحياء ذكرى مرور قرن على أحد أسوأ فصول العنف العنصرى فى تاريخ الولايات المتحدة. يُعد «بايدن» أول رئيس أمريكى يلقى الضوء بهذه الطريقة على تلك المذبحة البغيضة، التى وقعت حين قام مسلحون بيض بشن هجوم على السود فى مدينة «تولسا»، ليقتلوا نحو 300، وينهبوا الممتلكات ويدمروا المبانى لأسباب عنصرية.
لكن الأهم من احتفاء «بايدن» بتلك المذبحة هو ما قاله فى كلمة خطيرة رأى فيها أن «أكبر تهديد إرهابى للولايات المتحدة لا يأتى من جماعات مثل (داعش) و(القاعدة)، وإنما يأتى من حركة تفوق العرق الأبيض والجماعات المتطرفة البيضاء العنصرية». لا يمكن التقليل من بشاعة ما فعلته تنظيمات مثل «داعش» و«القاعدة»، لكن هذا الإجرام لم يكن تعبيراً عن الإسلام، بل كان تعبيراً عن التعصب والعنصرية والتطرف، وهو أمر يمكن أن تجده بين أتباع أى دين أو عرق، وفى أى دولة، طالما توافرت له الظروف المناسبة.
واليوم بدأ قادة رئيسيون فى الغرب يدركون تلك الحقيقة.. وأن تصل متأخراً أفضل من ألا تصل.