ليس من السهل أن يسقط الصنم المعبود فى نظر عابد.
الإنسان يصنع من غيره صنماً يجله ويهيم به ويعظمه ويوقره ويصدق كل ما يصدر عنه حتى ولو كان ترهات، وكل ما ينطق به لسانه حتى ولو كان أكاذيب. ربما تأتى على عابد الأصنام لحظة يكتشف فيها كذب «المعبود»، وقد يجول بخياله سؤال عن مستنقع التفاهة والتأخر العقلى الذى سقط فيه وهو يستسلم لعبادة صنم كذوب، لكنه لا يستطيع التوبة أو الرجوع إلى عقله بأية طريقة من الطرق. وقد يكون السر فى ذلك أن الوثنية «حالة جماهيرية».
الوثنية جماهيرية.. والتوحيد فرد. وقد قدّم القرآن الكريم لنا نموذجاً لهذه الحالة فى قصة نبى الله إبراهيم عليه السلام، الذى عاش فى مجتمع وثنى دأب على صناعة الأصنام وعبادتها.
كشف إبراهيم لقومه حجم التفاهة والعبث الذى يلف حياتهم وهم يركعون لأصنام لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عنهم شيئاً، ولا تتكلم أو تنطق، بل يغرد بلسانها مجموعة من الكهنة العابثين، ورغم ذلك لم يثوبوا إلى رشدهم، بل واصلوا الدفاع عن أصنامهم، حتى بعد أن أثبت لهم النبى بالتجربة العملية أن أصنامهم لا تزيد عن حجارة صماء عاجزة، حين حطمها لهم، وأجابهم حين سألوا عن الفاعل قائلاً: «فاسألوهم إن كانوا ينطقون».
رفضت الجماهير القبول بتفاهة تفكيرهم، أو الاقتناع بالحالة العبثية التى تسيطر على حياتهم وهم يعبدون الأصنام. فالفرد قد يشك للحظة فى سخف تفكيره أو سلوكه، لكنه سرعان ما يعود إلى أصنامه بمجرد أن ينخرط فى جماهير العابدين.
فالمجموع له ضغوطه، وقدرته على رد الفرد الشارد إلى القطيع، ليتراجع بسرعة عما جال فى عقله من مراجعة أو إعادة نظر فى الصنم العاجز الذى يعبده.
المجموع يشجع بعضه بعضاً على التمسك بالصنم حتى ولو بان لهم عجزه عن المواجهة، فكيف تتقبل الكتل البشرية بسهولة الاعتراف بفساد تفكيرها وعبثيته.
القرآن الكريم أكد هذا المعنى فى الآية الكريمة التى تقول: «وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشىء يراد». وهى تحكى حالة الاهتزاز النفسى التى عانى منها عرب مكة بعد أن كشف لهم النبى صلى الله عليه وسلم جانب السخف فى عبادة الأصنام، فما كان من «الملأ» إلا أن أخذوا ينصحون بعضهم البعض بالصبر -تخيل الصبر- والثبات على الولاء لأصنامهم، انطلاقاً من أنهم مستهدفون من جانب محمد.
لا سبيل واضح للقضاء على الوثنية فى حياة البشر، فما إن يتخلصوا منها حتى يعودوا إليها، بل إن عُبّاد الأصنام فى الماضى كانوا أكثر اعتدالاً، حين صنعوا لأجدادهم الكبار أصناماً عظموها، ظناً منهم أنها تقربهم إلى الله، أما الأجيال التى أعقبتهم فقد اتخذت من أحيائها أصناماً، بل ووسعت من مفهوم «الصنمية» لتمتد مظلته من الدين إلى السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، بل وحتى الفن والرياضة.
لله فى خلقه شئون.