رغم سيل الانكشافات التى صاحبت المقاطع المصورة، الخاصة بأحاديث زعيم المافيا التركى «سادات بكر» الذى أطلق عبرها طلقات نارية أصابت حزمة من الأهداف الكبرى فى منظومة الحكم التركى الحالى. إلا أن الستار حتى اللحظة يبدو كأنه قد انزاح عن جزء ضئيل من الحقائق الصادمة، فعنوان الفساد الواحد يجر عناوين لا حدود لها، واسم المسئول النافذ المتورط يفتح الأبواب على شبكة هائلة، لم تتضح نهاياتها الطرفية بعد!
عملية هروب «بكر» ذاتها بدت فى حد ذاتها كاشفة لعمق تغلغل زعيم المافيا التركى فى أروقة الأجهزة الأمنية، فقد تلقف «سادات بكر» تحذيراً عاجلاً من وزير الداخلية التركى «سليمان صويلو» بضرورة الفرار خارج البلاد، مما أتاح له الفرار العام الماضى فى الوقت المناسب قبل أن ينشب الخلاف بينهما. فى المقاطع الأولى التى بدأ «بكر» فى بثها ادعى أن تحركه فى هذا التوقيت بمثابة انتقام، لسوء معاملة الشرطة لأبنائه وأسرته خلال مداهمة منزله بحجة التحقيق فى نشاط عصابته، فضلاً عن القبض على شقيقه وذراعه اليمنى «أتيلا بكر». رغم أن الشرطة التركية اعتقلت شقيق زعيم المافيا بعد ساعات من إعلان سادات بكر فى أحد مقاطع الفيديو أنه كلف شقيقه بقتل السياسى والصحفى «كوتلو أدالى» فى عام 1996. لذا بدت الذريعة التى دفعت «بكر» للخروج بهذه الفيديوهات، أبعد كثيراً من مجرد ردة فعل انتقامية على عملية القبض خاصة أن الشقيق لم يتمكن من تنفيذ القتل، على الرغم من مقتل «أدالى» بالرصاص بعد ذلك بوقت قصير فى يوليو 1996. فالأخطر أن التحقيق التركى حينئذ لم يكشف عن المسئول عن تلك الجريمة، وظل التحقيق مقيداً ضد مجهول إلى وقتنا هذا حتى جاء تأكيد «بكر» لاحقاً أن الوزير السابق نفسه الذى أراد قتل «أدالى» كان مسئولاً عن مقتل صحفى آخر هو «أوغور مومكو»، زوج السيدة «بروين بولدان» القيادية فى حزب «الشعوب الديمقراطى» التركى الموالى للأكراد. مما دعا أسرة الضحية للإعلان عبر زوجته «بولدان» أن زوجها قُتل على يد الدولة، فى الوقت الذى حصل المسئولون على البراءة، مضيفة أنها تسعى الآن جاهدة لمحاكمتهم مرة أخرى.
بقى هذا الجدل حول عمليات الاغتيال بمثابة أمثلة محدودة خرجت للنور للتدليل على نمط الشراكة التى جمعت زعيم المافيا بأصحاب المناصب الرفيعة فى سنوات حكم أردوغان. لكن ما ذكره «بكر» كاتهامات ضد الشخصيات النافذة فى الحكومة التركية، تطرقت إلى القتل والاغتصاب، وتهريب السلاح والمخدرات، والابتزاز السياسى، فضلاً عن التلاعب بالإعلام. مما تسبب فى اضطراب واسع النطاق داخل هذه القوى الحاكمة، فلم يكن سهلاً على سبيل المثال إفصاح «بكر» أن وزير الداخلية الحالى «سليمان صويلو»، هو من استخدمه من أجل الإطاحة بـ«بيرات البيراق» صهر أردوغان الذى كان يشغل منصب وزير المالية، فى ظل حالة التنافس الحادة بين الرجلين على مساحات النفوذ فى إسطنبول، التى يبدو أن زعيم المافيا التركى وقع ضحية لها وهو بنفسه دلل على ذلك عبر نشر أحد مقاطع الفيديو، تحدث فيه موجهاً حديثه إلى وزير الداخلية قائلاً: «ألم تحرضنى ضد بيرات البيراق، وقلت لى إن البيراق هو من يحكم إسطنبول ولست أنت»، ولم يرد «صويلو» على هذا الحديث بنفيه أو دحض أسانيده.
فى مجال أنشطة التهريب الدولى للمخدرات، لم تكن اتهامات «بكر» أقل حدة وبدا أنه شارك بنفسه وعبر عصابته الكبرى فى عديد من هذه الأنشطة، مع كل من نجل رئيس الوزراء السابق «بن على يلدريم» وقائد الشرطة والوزير السابق «محمد آغار»، حيث لجأت تلك المجموعة المتحالفة بعد ضبط شحنة مخدرات قدرت بنحو (5 أطنان) من الكوكايين، فيما جرت وقائعها فى يونيو الماضى بمعرفة السلطات الكولومبية، قبل أن يجرى تهريبها إلى داخل تركيا لصالح «أركان يلدريم» نجل رئيس الوزراء السابق الذى مكث بعدها لفترة فى فينزويلا، بحثاً عن مورد بديل يساعد ويسهل عملية التهريب عبر طرق بديلة لنقل الكوكايين، الذى يدخل تركيا موزعاً على اليخوت التى لا تخضع إلى إجراءات التفتيش كونها مملوكة لأقارب كبار القادة السياسيين. ومنها كان يجرى توزيعها إلى سوريا وروسيا وأذربيجان، فى صفقات استمرت لسنوات. هذا الأمر دعا الرأى العام التركى إلى المطالبة بضرورة استقالة «صويلو» قبل بداية أى تحقيقات فى هذا الأمر، فى حال أرادت الحكومة التعامل مع مفردات هذا المشهد بالجدية اللازمة. «أحمد داود أوغلو» زعيم «حزب المستقبل» ظل لأسابيع يتهكم على وزير الداخلية، عندما طالب بإقالته باعتباره غير قادر على الاستقالة بسبب عمق تورطه وتشابكات عمله مع عصابات التسعينات، بحسب قوله.
فيما يضرب الارتباك العنيف الدائرة المحيطة بأردوغان، حظرت السلطات التركية الوصول لمقطعى فيديو من بين (8 مقاطع) نشرها زعيم المافيا التركى على موقع «يوتيوب»، وذلك بعد مرور أربعة أيام من آخر فيديو نشره وأعلن فيه عن انتقاد مرتقب للرئيس التركى رجب أردوغان، بعدما ظل لفترة قاصراً هجومه على فضح الدائرة المقربة منه، كما قيدت سلطات الأمن السيبرانى الوصول إلى حسابه الرسمى على موقع «تويتر». فى الوقت الذى تقدم حزب «الشعب الجمهورى» رسمياً بعريضة إلى رئيس البرلمان، طالبه من خلالها بمعرفة هوية النائب الذى زعم «صويلو» حصوله على مبلغ شهرى من زعيم المافيا.
تسبب زعيم المافيا سادات بكر فى ضجة كبيرة على شبكات التواصل الاجتماعى، فهناك مقاطع فيديو قام ببثها حظيت بمتابعة تجاوزت (7 ملايين) مشاهدة فى أقل من 24 ساعة، خاصة أن الرجل البالغ من العمر 49 عاماً كان معروفاً لدى الرأى العام التركى لفترة طويلة، ويعتبر من ركائز عالم الإجرام فى تركيا. ويبدو فى الأفق أن جعبته ما زالت عامرة بقذائف نافذة ستضرب أركان النظام مجدداً، فالحزب الذى يعانى من تدنٍ حاد فى نسب مؤيديه وصلت إلى 27%، طالع حتى الآن مجموعة من المقاطع لم تتجاوز العشرة فقط!