لحظات قليلة للغاية هى التى فصلت ذلك الشاب المفعم بالحياة عن نهاية لم يكن أبداً يتوقعها.. لحظات ذهب فيها بعيداً عن الحياة التى يعرفها.. وكاد أن يغادرها للأبد لولا يقظة ومهارة الفريق الطبى الذى كان موجوداً فى الوقت المناسب ليمارس عمله الذى لا يشعر به الكثيرون.. ولكنه فى هذه المرة كان العمل الأهم ربما للعالم كله..!
لا أعتقد أن موقفاً مثل سقوط لاعب منتخب الدنمارك «كريستيان إريكسون» على الأرض وتوقف قلبه عن النبض تماماً فى مباراة فريقه مع منتخب فنلندا، قد تكرر من قبل فى ملاعب كرة القدم عبر تاريخها منذ أن نشأت قبل مائة وخمسين عاماً..!
فى مصر نملك موقفاً مشابهاً للاعب مصرى موهوب كان يدعى محمد عبدالوهاب، رحمه الله، مع بعض الفروق المهمة.. الأول أنه وقتها قد سقط فى المران اليومى للفريق وليس أمام شاشات التلفاز وفى بطولة عالمية مثل ما حدث هذه المرة.. والثانى أن أحداً لم يتمكن من إنقاذه.. ليلفظ أنفاسه الأخيرة!
اللحظة كانت مرعبة للعالم كله الذى يتابع تلك البطولة الأوروبية الشهيرة باهتمام.. اللاعب لم يشترك معه أحد بعنف ولم يتعرض لأى إصابة.. لقد كان يهرول وحيداً.. ثم سقط لترتطم رأسه بالأرض فى عنف واضح يدل على فقدانه الوعى تماماً..!
منذ اللحظة الأولى لم أشك أنه يتمارض أو يدعى الإصابة.. لا يمكن أن يدعى أحدهم الإصابة ويسقط بهذا الشكل.. كل من درس الطب يعرف جيداً ما يسمونه الإغماء الهستيرى.. ويعرف أن السقوط فيه لا يحدث أى إصابات فى المريض لأنه ببساطة يكون حريصاً على أن يسقط بشكل آمن.. هذا السقوط كان بلا محاذير تماماً.. لذا فلا يمكن إلا أن يكون خطيراً.. بل شديد الخطورة..!
المشهد حمل الكثير من الدراما الإنسانية التى أصبحت حديث العالم كله.. والمادة الثرية لمعظم وسائل التواصل الاجتماعى.. آلاف التعليقات ومئات المقالات الصحفية تتحدث عن هذا الموقف العصيب.. الكل قد هرع إلى الأطباء ليحاول أن يفهم ماذا حدث.. كيف توقف قلبه بهذه الصورة؟ وكيف عاد مرة أخرى؟! بل وماذا لو لم يعد فى ذلك التوقيت تحديداً؟!
أسئلة من هذا النوع لم تكن تدور فى أذهان الفريق الطبى وهو يمارس عمله على أرضية الملعب.. ففى مهنة الطب لا نبحث عن إجابات بقدر ما نحاول نحن أن نجيب.. لقد كان هدفهم أن يعود هذا القلب للنبض مرة أخرى ونجحوا.. وهذا يكفيهم!
الفكرة أن الحادث قد ألقى الضوء على ما يفعله الأطباء فى كل مكان فى العالم بشكل يومى.. فهى المرة الأولى التى تتم فيها عملية إنعاش قلبى رئوى CPR بالكامل أمام شاشات التلفاز.. حتى إن اللاعب قد خرج من الملعب وقد عاد له وعيه وبدأ فى الحركة.
لن يتخيل أحد شعور طبيب -أى طبيب- بعد نجاحه فى تلك العملية.. إنها نشوة عارمة لن يشعر بها سوى من اختبرها.. إنه المهندس الذى بنى أعلى أبراج العالم.. والمدرس الذى علَّم أهل الأرض جميعاً.. والتاجر الذى ربح كل كنوز الدنيا.. لقد سبَّبه الله فى إنقاذ حياة أحدهم.. فكيف لا يكون أسعد الناس على ظهر هذا الكوكب؟!
الحادث سيكون سبباً فى إعادة النظر فى درجة التأمين الطبى الموجود بكل الألعاب الرياضية.. أثق فى هذا.. ولكننى أتمنى أن يكون سبباً أيضاً فى زيادة التقدير للأطباء.. وسبباً أن يدرك الجميع قيمة ما يقدمونه دون ضجيج!
تحية لكل طبيب على هذه الأرض.. تحية لكل ما قدموه ويقدمونه من أجل إسعاد البشرية وبقائها.. بل ورفاهيتها..
تحية لحراس الحياة فى كل مكان.. فليس أشرف من تلك المهنة.. وليس أقدس من إنقاذ الحياة.. أو هكذا أعتقد!