إذا غلا علىّ شىء تركته.. فاكرين هذه الجملة التى كانت تتردد على لسان بطل فيلم «البيضة والحجر» للمبدع محمود أبوزيد فى مواجهة غلاء الأسعار.. زمان المواطن كان موضع اتهام بتشجيع التجار على جشعهم عندما يستسلم للارتفاعات المستمرة فى أسعار السلع ويشتريها، وكان العقلاء يدعونه باستمرار إلى التوقف عن الشراء إذا غلا سعر سلعة معينة حتى يضطر التاجر إلى بيعها بثمن معقول ومنطقى ولا يبالغ فى مكاسبه.
أظن أننا لسنا بحاجة اليوم لنصح المواطن بذلك، فقد ترك بإرادته الحرة المستقلة الكثير من السلع وتوقف تماماً عن شرائها بعد أن ارتفعت أسعارها.
المسألة ليست مسألة وعى بل مقتضيات وضغوط ظرف. فالمواطن اليوم أصبح محكوماً بمعادلة يمكن وصفها بـ«معادلة الاضطرار»، فهناك أشياء مضطر للدفع فيها دون تلكؤ، لأن الحرمان منها يعنى الحرمان من أبسط مقومات الحياة، وترتبط أغلب هذه الأشياء بالفواتير التى يتوجب على كل أسرة دفعها كل شهر، مثل فواتير الكهرباء والمياه والغاز، وتضيف إليها بعض الأسر فواتير التليفونات والإنترنت.
ثمة فواتير أخرى ثابتة تدفعها كل أسرة مثل فواتير الحلاقة والدروس والأدوية وغيرها.
كل هذه الفواتير يجد المواطن نفسه مضطراً لدفعها وإلا توقفت حياته وفشل أبناؤه وتغول شعره وتهدل شنبه وطالت لحيته. ولك أن تتخيل ما يمكن أن يتبقى لمواطن دخله ألفان أو ثلاثة أو حتى خمسة آلاف جنيه فى الشهر بعد دفع هذه الفواتير!.
كم سيتبقى له ليدفع ثمن طعامه وشرابه، خصوصاً إذا كان ينفق على أسرة؟. بحسبة بسيطة للغاية يمكنك أن تخلص إلى أن بعض الأسر تعتمد على حلة «المكرونة» كوجبة أساسية، وبالمناسبة حلة المكرونة أصبح لها سعرها.
تحت «سيف الاضطرار» امتنع المواطن عن شراء الكثير من الأشياء التى غلا ثمنها، ومن المؤكد أن قائمة الممنوعات سوف تزيد أول يوليو القادم بسبب ارتفاعات جديدة فى أسعار عدد من السلع والخدمات.
أذكر أننى حدثتك أواخر رمضان الماضى عن لجوء بعض الأفران والمحلات إلى بيع كعك العيد بالتقسيط، وقد يضطر الجزارون -على العيد الكبير- إلى بيع اللحمة بالتقسيط. ولك أن تفكر فى معنى ودلالة أن يصل قطار التقسيط إلى أبسط السلع الموسمية التى تعوّد عليها المصريون.
فماذا يفعل التاجر أمام الركود الذى يتزايد يوماً بعد يوم؟. إنه «الركود التضخمى» الذى يتحدث عنه الاقتصاديون والذى ينتج عن ارتفاع الأسعار، وهو كفيل بإرباك أكبر الأسواق.
نحن أمام دائرة تسلم كل نقطة فيها إلى النقطة التى تليها حتى تكتمل. فارتفاع الأسعار يؤدى إلى التضخم، والتضخم يؤدى إلى العزوف عن الشراء بسبب عدم امتلاك الثمن، والعزوف عن الشراء يؤدى إلى الركود، والركود يؤدى إلى توقف بعض المشروعات، وتوقف بعض المشروعات يؤدى إلى زيادة أرقام البطالة، وهكذا.
الحكومة لن تحل مشكلتها الاقتصادية عن طريق زيادة أسعار الخدمات أو فرض المزيد من الضرائب، بل ستعقدها أكثر وأكثر، لا يوجد حل سوى أن ترفع الحكومة يدها عن جيب المواطن، وتبدأ فى التفكير فى تنمية حقيقية لمدخولاتنا الاقتصادية فى الزراعة والصناعة والتجارة.