حينما تلهج ألسنة حجيج بيت الله والطائفون والعاكفون بالشعار الأثير (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك)، تتحول من عبارات إلى مشهد ملموس واقع، إن الحمد لك، وإن النعمة لك، وكذا الملك الفضل والخير منك.. سبحانك سبحانك.. قال نبيك الكريم: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة، وأحبونى لحب الله إياى»، (إن الحمد والنعمة لك).
إنه نداء يلخص لنا الكلمة العظيمة التى جاء بها الأنبياء.. (لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له)، كلمات يدركها الناس من كل الأجناس، لأن محورها عبادة الله.
وعلى عرفات الله مشهد آخر جليل من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات، لبيك اللهم لبيك.. الموقف شريف، والرحمة تصل من حضرة الجلال إلى جميع الخلق بواسطة القلوب العزيزة من عباد اجتمعت هممهم، وتجرّدت للضراعة والابتهال قلوبهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين على طلب الرحمة والغفران من الله.
لبيك اللهم فى اجتماع الناس، وفيهم الضعيف، وفيهم القوى، وفيهم العربى، وفيهم الأعجمى، والكل يتحلى بخلق الصبر والإيثار والرحمة، فلا يزاحم الكبير، ولا يقسو على الصغير، لا سيما عند الطواف والرمى وتقبيل الحجر.
لبيك عند الحجر الأسود، رمز التواضع، فهو من جنس الجمادات، وهنا تكتمل منظومة الأخلاق، أدبٌ مع الجمادات حيث تقبيل الحجر الأسود، أدبٌ مع النباتات حيث نُهى عن قطع الأشجار فى الحرم، أدبٌ مع الحيوان (لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)، أدبٌ مع الإنسان (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ).
لبيك يا الله فى دعوتك للمحبة، الحج اجتماع ومحبة، والمحبة قيمة عظيمة من خلالها نخرج من التفسير الغاضب للدين الذى يقدّم الكراهية بديلاً عن الحب، فالحج يقوّى روح التواصل، وينسج لحمة التضامن والتكافل، ويعطى بُعداً وجدانياً للوحدة واحترام الأكوان.
يقول أبوحامد الغزالى: فإن المحبة لله هى الغاية القصوى من المقامات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها، والحب القلبى والعاطفى له مكانة سامية ودرجة صاحبه رفيعة، إذ إنه يطوى مقامات سير السالكين طياً، ويروى ظمأ قلوب المحبين رياً، كما يشهد له حديث: «ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أنى أحب الله ورسوله».
ومن غير المحبة تتحول المجتمعات إلى أعداء يناضلون للقضاء على بعضهم، وتصبح النظرة إلى البقاء مرتبطة بالفناء، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسدُ والبَغْضَاءُ، هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلقُ الدين، والذى نفسى بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يثبِّت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم».
سلام على الجميع، على من نحبهم ومن لا، على من نتفق معهم ومن نختلف معهم، سلام على كل إنسان من كل دين يحب الخير والعطاء والبذل، ويكره العنف والتخريب.
وسلام على حجاج بيت الله الحرام.