الكون من حولنا فى حركة دائمة لا تتوقف.. هو «صائر دائماً»، ومع هذه «الصيرورة» الدائمة المستمرة يتعامل الآدمى، ينجح أو يخفق، يبدع أو يخمل، تحدد «ذاته» معالمها ودورها من واقع هذا التعامل الحى مع الكون الصائر الحى، وليس يعنى هذا أن الإنسان يشارك فى خلق الله، أو يضيف إليه، وإنما هو يتفاعل ويتلاحم ويلتئم مع هذه الصيرورة الحية المتفاعلة.. الحق جل شأنه قد خلق الكون برمته من العدم، وخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر والكواكب والأجرام والمجرات والأفلاك، ونظم سبحانه هذا الكون ودبره، بث فيه أسباب الحياة فى نظام بديع هائل.. تتلاقى فيه آيات وحدة الخالق سبحانه وقدرته، وإحكام تدبيره، وتتجلى فيه «الحركة الدائمة» فى كل ربع من ربوعه، وكوكب من كواكبه، وفلك من أفلاكه.. الحركة الدائمة هى قانون الكون كله.. هى الصفة العامة التى تشمل الكائنات جميعاً.. تتراءى للناظر المتأمل حيثما اتجه نظره فى هذا الكون الفسيح المعجز للأفهام!
كل ما فى الكون فى حركة دائمة مستمرة لا تنتهى ولا تهدأ.. عرف الناس من قديم أن الشىء الساكن يظل ساكناً أبداً، إلا أن تفعل فيه قوة تحركه، وفى هذا أصابوا.. بيد أنهم ظنوا أن الشىء المتحرك لا يبقى متحركاً إلا إذا وافاه مدد دائم من قوة تدفعه وتحركه، وفى هذا أخطأوا!!.. الذى أكده العلم وتجاربه أن الجسم الساكن ساكن أبداً إلا أن تتدخل قوة تحركه، وأن الجسم المتحرك متحرك أبداً، وبنفس سرعته، إلا أن تتدخل قوة تؤثر فى حركته سلباً أو إيجاباً.. السيارة التى تفقد سرعتها حتى تتوقف، لا يطرأ عليها ذلك لتوقف موتورها عن العمل، وإنما بفعل الجاذبية الأرضية ومقاومة الهواء والاحتكاك بالأرض.
حيثما نظر الناظر فى الكون سوف يرى «الحركة» قانوناً شاملاً عاماً يتجلى فى شموس الكون وأرضينه وكواكبه وأجرامه ومجراته وأفلاكه.. كوكبنا الأرضى الذى فيه وعليه نعيش، فى حركة دائمة، تدور الأرض حول نفسها وحول الشمس، من غرب إلى شرق.. والقمر كالأرض فى حركة دائمة، يدور حول نفسه وحول الأرض.. وهو يتبع أمه الأرض فى دورانها حول الشمس، ومدارهما معاً من غرب إلى شرق!!
وحياة الآدمى فى اتصاله الدائم بتيار الحياة.. فى ولوج ربوعها وميادينها والمساهمة فى صنعها ونسقها وإيقاعها.. فى الإسهام البناء المثمر فى تعمير الدنيا وإثراء الحياة وتجميلها ونفع الإنسان بهذا الرباط الفاعل بين الأحياء وبينهم وبين الحياة.. اتصال الآدمى بالحياة هو الذى يجعله قوة فاعلة معطاءة، ويقيه الخواء والعبث واللا أهمية فى القرآن المجيد: «تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» (الملك 1، 2).. الآدمى معلق مصيره بعمله، والحياة كلها ابتلاء للآدمى.. ميزان هذا الامتحان ماذا عمل الإنسان وماذا استطاع بتناغمه مع حركة الحياة الدائمة أن ينجز وأن يعطى وأن يقدم.. فى القرآن المجيد: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة 105).. «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإليهِ النُّشُورُ» (الملك 15).. «وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا» (الأحقاف 19)، «وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافسُونَ» (المطففين 26).
الكواكب السيارة.. لم يعرف الإنسان فى الزمن الغابر من هذه الكواكب سوى خمسة: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى، وزحل.. بيد أنه كشف منذ القرن الثامن عشر عن ثلاثة كواكب أخرى: أورانس ونبتون وبلوتو!.. سماها كلها بالسيارة تمييزاً لها عـن النجوم التى جرى الظن أنها ثابتة لا تدور، ولا تتحرك!.. بيد أنه اكتشف أن هذه الكواكب ليست وحدها السيارة، بل الكل فى حركة دائبة ودائمة.. الأجرام والنجوم والشموس.. الشمس ربة هذه الأسرة، استبان أنها حول نفسها تدور من غرب إلى شرق، وأن كل النجوم والكواكب تدور فى جملتها حول نفسها وحول الشمس.. إن لسائر الكواكب كالأرض أياماً وأعواماً وإن اختلفت أطوالها عن أيام وأعوام الأرض.. كل ذلك نابع من حركتها وحركة الأفلاك والشموس والأقمار الدائمة!!.. هذه الحركة ليست قصراً على الشمس والأرض والكواكب والنجوم والشهب والمذنبات، وإنما تشمل المجرة أو سكة التبانة.. وهى قرص متوهج عظيم يضم المجموعة الشمسية وآلافاً مؤلفة من النجوم، وتظهر فى السماء كهالة كبيرة من نور وسط عتمة فسيحة مظلمة.. هذه المجرة مجرتنا، وغيرها مئات الملايين من المجرات فى هذا الفضاء اللانهائى ثبت أنها هى الأخرى فى حركة دائمة، تدور.. وعلى نفس قانون الكون من غرب إلى شرق!!
والحركة الدائمة فى الكون ليست وقفاً على الأجرام، وإنما تتجلى أكثر حركةً وإيقاعاً فى دورة الحياة فى الكون وفى المخلوقات كل المخلوقات على السواء.. تتجلى فى الشمس التى تضرب البحار فتتحول أبخرة تتصاعد إلى السماوات، فيجمدها البرد فتهطل أمطاراً تصافح وجه الأرض فتخضر بها الحياة على أديمها، وتشرب الكائنات من ينابيعها وأنهارها.. تتجلى فى أوراق الأشجار والأفنان تسقط لينبت غيرها، مثلما تتجلى فى دورة الحياة بين بنى الإنسان وكل الخلائق والكائنات.. أجيال تبيد، وأجيال تولد، ومن الموت توهب الحياة، تتوالى الحيوات مثلما تتوالى الفصول والأيام.. ليالٍ تروح، وليالٍ تجىء، وشموس تشـرق وتغيب، يولَج (بفتح اللام) النهار فى الليل، ويولَج الليل فى النهار، وتتعاقب دورات الحياة لا تستثنى من حركتها شيئاً ولا كائناً.. إما أن يمسك الحى بزمامها ويتلاحم ويلتئم معها، ويتوحد مع إيقاعها، وإلا يموت!!.. هذه «الصيرورة الدائمة» هى ميدان الآدمى الذى فيه تجرى خطاه وتضرب سواعده ويحلق عقله ويتوالد ويتواصل عطاؤه ويستمد معنى الحياة!!