ابتُليت مصر بوباء عشوائية الفكر وبوهيمية الانتماء والتباس القيم والمبادئ فى نهاية السبعينات، وامتدت معنا حتى اليوم لتلقى بظلالها الظلامية على تفاصيل حياتنا اليومية. رياح التغيير الاجتماعى العاتية التى هبّت على بلدنا ومَن فيها قبل ما يزيد على أربعة عقود أحدثت هزة عنيفة فى ثقافتنا وفنوننا وعاداتنا وتقاليدنا وحتى مفرداتنا، فتشبّع أغلبها بمسخ من ثقافات واردة وأفكار ظلامية وأمراض نفسية تميل إلى تعذيب من يُبتلى بها، حيث يتمكن منه شعور يورّثه للأبناء والأحفاد بأن الحياة فسق والسعادة مكروهة والجمال نقمة والابتكار شر والتفكير رجس والمنطق بدعة. وتوطّن كل ما سبق فى بلدنا وناس بلدنا حتى تحوّل المسخ إلى حسن، والتطرف إلى معتنق، والقبح فى المظهر والجوهر والفكر إلى عبادة نثبت من خلالها للخالق أننا لسنا مُبقين على الدنيا وأننا نتوق إلى الموت الجميل حتى ننعم بكل ما حرمنا منه أنفسنا فى جنة الخلد. والحقيقة أن هذا الفكر المعطوب غذّته وسقته ورعته وسهرت (وما زالت) على راحته وضمان بقائه واستمرار ترعرعه وتوغله وتغوله فئة أكلت بدلاً من العيش بوغاشة من ورائه.
وراء كل سؤال يرد إلى دار الإفتاء والأزهر الشريف وغيرهما من جهات وأفراد يلجأ المصريون لهم بغرض التوجيه والتصحيح والتشكيل وضبط زوايا الدماغ الكثير. دعك من الردود والإفتاءات والاجتهادات، فهى تظل ردوداً تتفتق عنها أذهان بشر للإجابة عن أسئلة تفتقت عنها أذهان بشر مثلهم. ما يعنينى أولاً هو الأسئلة، فالسؤال يعكس ما يشغل بال سائله، وما يسيطر على تفكيره، وربما يُقلق منامه، وإلا لما تكبّد عناء السؤال أصلاً.
وخلال الأيام القليلة الماضية طالعت بمزيد من الدهشة والقلق اللذين لا يخلوان من انبهار أسئلة أقلقت مضاجع سائليها وهرع أهل العلم الدينى إلى الإجابة عنها، وربما يعتقد البعض منهم أن الإجابة من شأنها أن تنقذ الأمة وتحافظ على الملايين من خطر الاندثار أو الضياع أو الانهيار. فمثلاً، على سبيل المثال لا الحصر، سأل أحدهم إن كان يجوز إطلاق النار على الحيوان المراد التضحية به فى حال أظهر تمرداً أو محاولة للهروب من الذبح!! ومبدئياً فإن الحيوان المقبل على الذبح بكل تأكيد سيكون متمرداً على ذبحه ولو أتيحت له فرصة الهرب فسيفعل. أما من تفتق ذهنه عن إطلاق النار عليه، فهذا موضوع لا يحتاج إلى شيخ للإجابة ولكن إلى طبيب للعلاج النفسى ونص قانونى عن حيازة الأسلحة النارية واستخدامها. بالطبع السائل منغمس تماماً فى جزئية حرمانية أو حِلّ لحم الضحية فى حال إطلاق الرصاص عليها فقط لا غير. لكن ماذا عن المجيب، وهل عليه مسئولية مناشدة السائل العودة لعقله مثلاً، أو مناقشته فى مصدر السلاح النارى الذى سيستخدمه ومدى قانونية الاستخدام بعيداً عن اللحم والفروة والكلاوى والفخذة.
وفى حال هرع البعض للدفاع الهجومى بأن مهمة رجل الدين الإجابة فقط على الجزئية الدينية، فعلينا إذن تطبيق هذا المبدأ المهم والرائع الذى تقوم عليه أى دولة مدنية، حيث منع التداخل بين الدين من جهة والدولة وتفاصيل إدارتها لشئون المواطنين الداخلية والخارجية من جهة أخرى.
وعموماً، فالأسئلة كثيرة: «هل يجوز التضحية بحيوان صغير السن كثير اللحم؟»، «هل تجوز الاستدانة لشراء خروف نظراً لضيق ذات اليد؟»، «هل يجوز أن تقوم بذبح الضحية جزارة؟»، وقائمة أسئلتنا كثيرة. لكن أسئلتنا أيضاً تمتد لتتساءل عما أصابنا، ولماذا لا يمرر المجيب رسالة للسائل قوامها «عودوا إلى عقولكم»؟!