منذ سنوات قليلة تحوَّلت أفراحنا الشعبية فى القرى والمدن، إلى مناسبات للابتذال وانعدام الحياء والبلطجة وقطع الطرق، ومؤخراً شهدت العديد من الأفراح الشعبية حوادث مفجعة راح ضحيتها العشرات، وأصيب كثيرون بعاهات مستديمة، وانقلب خلالها الفرح إلى مأتم جماعى، ورغم ذلك كله راحت هذه الظاهرة القبيحة والإجرامية تنتقل من المدن إلى القرى فى الوادى والدلتا، ومنها إلى العزب والكفور والنجوع، وتكفلت وسائل التواصل الحديثة بتعميمها والتجويد فيها، حتى صحونا مؤخراً على مسميات مثل «زفة العراة»، و«زفة الشيطان»!.
ولأننى متابع جيد لمثل هذه الظواهر الاجتماعية، فقد انتبهت منذ سنوات قليلة إلى انتشار ظاهرة «التخميس أو التفحيط» بالسيارات أثناء زفة العروسين، وقد شاهدت هذا «التخميس» الكارثى لأول مرة على محور صفط اللبن عام 2013، ويومها توقف المرور على المحور تماماً لأكثر من ساعة، حتى انتهى شاب متهور من أكروباته الكارثية، وخلال هذا الاحتفال الإجرامى اتصل كثيرون -وأنا منهم- بالنجدة والمرور للإبلاغ عن قطع الطريق وتعريض حياة المواطنين للخطر، ولكن لم يتحرك أحد.
ومع هذا التراخى من جهات الضبط، اكتسبت زفة العروسين أبعاداً إجرامية جديدة، حيث ظهرت الموتوسيكلات الحديثة بأكروباتها الخطيرة وأصواتها المزعجة، وظهر معها وفوقها عشرات المراهقين الذين يحملون عبوات مبيدات حشرية يشعلون بها النيران ويدورون حول أنفسهم فى طقس هذيانى، وعلى مقربة منهم سيارة التخميس التى تدور حول محورها فى مشهد هيستيرى، انتهى أمامى ذات مرة بانقلاب السيارة وارتطامها بسور خرسانى ثم ارتدادها لتفتك بأربعة مراهقين فى لحظة خاطفة.
ورغم التطور المفرط لفواجع الأفراح الشعبية، لم يتعظ أحد، ولم تتراجع هذه الظواهر، وكل الدلائل تشير إلى اكتسابها زخماً جديداً دون أن يتمكن أحد من مواجهتها أو التدخل الحاسم لوقف هذا النزيف الهيستيرى، ومؤخراً عرفت مصر طقساً كارثياً إضافياً يتمثل فى زفة جهاز العروسين، وهى عادة مصرية قديمة تنتشر فى كل الأقاليم تقريباً، وخصوصاً فى القرى والعزب والنجوع، حيث يتم تحميل الجهاز على أكبر عدد من سيارات النقل الصغيرة والجرارات الزراعية، وتتنافس الأسر والعائلات فى إظهار قوتها بزيادة موكب سيارات نقل الجهاز، وقديماً كان هذا الموكب يقطع شوارع القرى فى مشهد مبهج، تتقدمه فرقة موسيقية شعبية تنقر على الطبول والدفوف وتنفخ فى المزامير، وتنطلق زغاريد النساء من كل البيوت التى يمر أمامها الموكب.
ولكن هذا الطقس المفرح انقلب مؤخراً إلى ضجة قبيحة، وشعوذة منحطة، وحركات بهلوانية، ورقصات فجة لعراة يحملون سيوفاً وسماعات ضخمة محمولة على إحدى العربات تنطلق منها «أغانى المهرجانات الساقطة»، والويل كل الويل لمن يجرؤ على الاعتراض، لأن معظم العراة الذين يقودون الموكب عنوة هم من المدمنين أساساً، وكل منهم على استعداد للفتك بمن يعترض على هذا الإسفاف.
ومؤخراً، انتشر هذا الطقس القبيح فى كل قرى ومدن الصعيد والدلتا، وخصوصاً خلال زفة جهاز العروسين، ومنذ 4 شهور تقريباً شهدت إحدى قرى مركز المراغة بسوهاج «زفة عراة» ظهر فيها عشرات المراهقين يدهنون أجسادهم بالأحمر والأزرق والأسود، ويرقصون بالسيوف وهم يشعلون النيران فى علب «البيروسول».. ولم يتمكن رجال القرية من وقف هذه المهزلة التى انتقلت بأقصى سرعة إلى مركز جرجا بسوهاج، ومنها إلى المنيا وبنى سويف وأسيوط، ثم ظهرت كأبشع ما تكون عصر يوم 25 يونيو الماضى فى قرية أتميدة بمركز ميت غمر دقهلية، حيث فوجئ أهل العروسين بشقيق العروس -وهو صبى مراهق- يتفق مع مجموعة متخصصة فى هذه الشعوذة لإحياء حفل زفة جهاز أخته، وأثناء تجمع الموكب ظهر هؤلاء الشبان بأجسادهم نصف العارية الملطخة بالألوان، وفى أيديهم طفايات حريق وأسطوانات بوتاجاز صغيرة، وما هى إلا دقائق حتى بدأت الهيستيريا على ضجيج أغانى الأخ محمد رمضان الذى تحوّل إلى ورشة كئيبة لإنتاج القبح والخراب فى كل شبر من أرض مصر، وأثناء هذا الطقس الشيطانى انفلتت أسطوانة بوتاجاز من يد أحدهم لترتطم برأس فتاة يتيمة فقضت عليها فى الحال، وأصابت صديقتها بإصابة جسيمة.
لقد شهد ملايين المواطنين والدة فتاة أتميدة وهى تتحدث لعدد من الفضائيات والمواقع الإلكترونية للصحف، وشعروا بفداحة الجرائم التى يرتكبها هؤلاء الذين يتكسبون من العمل فى مجموعات «زفة الجهاز» ويتقاضون أجوراً من إفساد حياتنا وتدمير قيمنا، وهم غالباً ينفقون أجور هذه المهنة القبيحة فى تعاطى المخدرات بكل أنواعها، وعدد كبير منهم من أصحاب السوابق الذين لا يجرؤ أحد على الاقتراب منهم، وقد اتضح لى -من خلال استقصاء سريع- أن معظمهم على علاقة وطيدة ببعض المخبرين الفاسدين الذين يتقاسمون معهم أرباح هذه البلطجة مقابل السكوت عن جرائمهم!
لقد زاد الأمر على حده، وأصبح ظاهرة شديدة الخطورة، وخصوصاً أنه كل فترة يكتسب أبعاداً جديدة، من بينها تنافس المواكب فى قطع الطرق الرئيسية لأطول فترة ممكنة وتنافس بعض العائلات فى ضم أكبر عدد ممكن من الموتوسيكلات إلى الموكب، وخلال العيد الماضى قضيت مع آلاف البشر، أكثر من نصف ساعة محشوراً داخل سيارتى أمام إحدى القرى فى مركز منية النصر دقهلية، حتى ينتهى موكب سيارات نقل جهاز عروسين من أكروباته الكارثية على طريق عام يربط بين محافظتى الدقهلية ودمياط، وكنت كلما هممت بالنزول لمواجهة هذا الانحطاط، أجد من يسارع بمنعى من تعريض نفسى وأسرتى لهذه المخاطرة، والمدهش أننى عندما رويت ما حدث معى لعدد من رجال القرية، نصحونى بألا أجازف بحياتى فى مثل هذه المواقف، لأن معظم الراقصين بالسيوف فى هذه المواكب هم من المدمنين والمنحرفين، الذين يستحيل السيطرة عليهم، ولا يوقرون كبيراً أو صغيراً، وهم على استعداد دائم للفتك بمن يجرؤ على النقاش معهم.
إن قطع الطرق الرئيسية والفرعية وإظهار الأسلحة البيضاء والتعرى الخادش للحياء وتهديد المارة والاعتداء عليهم، من أعمال البلطجة التى يجرمها القانون، وكلها جرائم علنية تستوجب ضبط مرتكبيها متلبسين وإحالتهم إلى النيابة.. ورغم ذلك نشاهد انفلاتاً مروعاً يعرض حياة الناس لخطر كارثى ولا نسمع عن تدخل حاسم لوقف هذا الانحطاط، وإذا كنا عرفنا بعض فجائع هذه الطقوس الشيطانية، فإن واقع الحال يشير إلى مئات الفواجع التى لم نسمع عنها وتم التكتم عليها أو تسجيلها ضمن حوادث الطرق، وهى فى الحقيقة حوادث نتجت عن ظاهرة التخميس بالسيارات والطلعة الأمريكانى بالموتوسيكلات فى كل مواكب نقل أجهزة العُرس، وهو الأمر الذى يحتم علينا جميعاً أن نطالب بوقفة حاسمة مع هذا الابتذال الإجرامى الذى حَوَّل أفراحنا من طقوس مبهجة إلى «مقالب» نفايات أخلاقية دميمة.