ما يجرى فى تونس لا يحظى بالاهتمام العالمى الكافى، ولا بالتحليل السياسى اللائق به، ولا حتى بالصورة الأكبر والمعنى الأعمق وراءه. وفى رأيى، هذه هى المؤامرة الحقيقية الأكبر من تنظيم الإخوان المسلمين وفكرة الدين السياسى التى يتم الدفع بها لتأكل منطقتنا وتخربها خراباً كاملاً. الخراب الكامل المرتكز على فخفخينا خلطة الدين بالسياسة بدأت قبل سنوات طويلة، بغرسها فى المجتمع وتفاصيله ومفرداته وتحركاته وحتى معماره وعلاجه ومرضه وفرحه وحزنه، وهى أمور لو تعلمون عظيمة. تتحول الحياة المغروسة فيما تم الترويج له باعتباره «حياة المسلمين» المختلفة تماماً عن حياة غير المسلمين «البغيضة» إلى غاية فى حد ذاتها، والدفاع عنها وعن محاولات إلحاقها بالحياة العادية وكأنها حرب ضد الإسلام والمسلمين. ولذلك حين تخرج من رحم هذه الحياة المختلفة التى غيَّرت شكل العديد من الدول فى المنطقة كيانات سياسية من «حرية وعدالة» أو «نهضة» أو «عدالة وتنمية» أو «المؤتمر الوطنى» أو غيرها، فإنه يبدو خروجاً طبيعياً ديمقراطياً يهلل له الغرب ويعتبره قطاع من الليبراليين والحقوقيين «فصيلاً وطنياً» معبراً عن قطاعات عريضة من الشعوب! وحين يستيقظ شعب ذات صباح ليكتشف أنه مكَّن تجار دين أو بائعى أوطان أو متعلقين بتلابيب السلطة والهيمنة على حساب رقاب الشعوب وأوطانها التى هى فى عرفهم جميعاً دون استثناء «حفنة من تراب» فينقلب عليهم ويقرر الإطاحة بهم، يهرع الغرب المدافع عن الصناديق وما أتت به بغضّ النظر عن مقدار سُمّيته ليرفع راية تقديس «الديموكراسى»، ويغنى الكورال المصاحب أنشودة «ما أتت به الصناديق لا يذهب به إلا الصناديق». الغريب أن هذا الكورال يعى تماماً أن ما أتت به الصناديق على اعتبار أن «الدين هو الحل» لا تذهب به إلا صناديق نقل الموتى. فمن يجرؤ على إعلان فشل مَن يرفع شعار «الدين هو الحل» إلا الفاسق والكافر والملحد والعياذ بالله؟!
حلقة مفرغة مقيتة ليست نتاج الأمس أو أمس الأول فى منطقتنا، بل هى نتاج عقود من الدين السياسى الذى تمكّن من رقابنا حتى بات بيننا من يعتقد زوراً وبهتاناً أنه مدنى وليبرالى، لكنه فى قرارة نفسه، ونتاج خلط نسخة تدين السبعينات بالتعليم والصحة والترفيه والإعلام والتربية والمواصلات العامة وقعدة القهوة ونصبة الشارع وبناء الكومباوند وشق الترعة وافتتاح المهرجان وإقلاع الطائرة وهبوط الأسهم وصعود الفرق الرياضية وحتى عمليات النصب والاحتيال والرشوة والغش، يظل ممسكاً بتلابيب فخفخينا الدين بالسياسة.
فخفخينا الدين بالسياسة وتركها ترتع فى أرجاء المنطقة العربية، وعدد من الدول الأفريقية والآسيوية، على مدار نصف قرن، تؤتى ثمارها الآن. فالرازحون تحت سموم الدين السياسى حين يكتشفون ما جرى لهم وبهم ويقررون الانتفاض بغرض الإنقاذ يجدون أنفسهم مطالبين من قبَل ديمقراطيات الغرب الليبرالى المدنى القائم على العلمانية، حيث الفصل التام بين الدين والحكم، باحترام «الفصيل الوطنى الخالط الدين بالسياسة». كما يجدون أنفسهم موضوعاً متكرراً لتقارير حقوقية وأوراق استثنائية تصدرها منظمات العالم الأول الحقوقية التى تعامل معاملة القديسين المطالبين بالحقوق والحريات. هؤلاء القديسون الحقوقيون أصحاب الأصوات المسموعة فى البرلمانات والمجالس النيابية المحددة لمآل المعونات المالية والاتفاقات العسكرية والعلاقات الاستراتيجية والسياسية الغربية، حيث ورقة الإجبار على إدماج «الفصيل الوطنى» الحامل راية «الدين هو الحل» فى العملية الديمقراطية التى هى «حرام» أصلاً فى صميم فكر «الفصيل الوطنى» الباث سمومه فى مشارق الأرض ومغاربها. لنا ولتونس ولبقية الدول التى تتجرع سموم «الفصيل الوطنى» الله والتنوير والتطهير.