يبدو أن الحديث عن تحول منصات «التواصل الاجتماعى» إلى قنوات لترويج الأكاذيب والأخبار المزيفة فى جانب من عملها بات واحدة من «المُسلّمات»، التى لم تعد بحاجة إلى جهد كبير لإثباتها، لكن بموازاة ذلك، ما زال «المحتوى الضار» يتنقل عبر هذه الوسائط بسلاسة منقطعة النظير.
تدخل الأخبار المضللة التى يتم بثها بشغف كبير عبر هذه المواقع إلى وعى المتلقين، ثم لا تلبث أن تكون أحد عناصر تفكيرهم وحكمهم على الأمور، قبل أن تتحول إلى محدّدات للسلوك ودوافع لاتخاذ قرارات، بعضها يكون حيوياً وخطيراً.
فى شهر نوفمبر من عام 2019، صدر تصريح خطير عن شركة «فيس بوك» أعلنت فيه أنها قامت بحذف 5.4 مليار حساب مزيف خلال 11 شهراً من العام نفسه، فى الوقت الذى كانت تمتلك خلاله قاعدة مستخدمين شهرية فى حدود 2.5 مليار مستخدم.
يعطينا هذا التصريح، الذى لم يلتفت إلى خطورته كثيرون، إشارة بالغة الدلالة إلى حجم التزييف الذى يمكن أن يضرب هذه المنصات، فى ظل قواعد عمل وإجراءات تحقق غير مدروسة ولا تتسم بالقدر الملائم من الفاعلية.
يعنى هذا التصريح ببساطة أن تلك المنصة الأهم فى العالم كانت تحتضن حسابين مزيفين مقابل كل حساب معلوم الهوية أو لم يثبت زيفه، وهو أمر يرسم الصورة الأكبر لنشاط اتصالى كونى تم تأسيسه على قاعدة الالتزام الطوعى للمتصلين بتحرى الدقة فى الإعلان عن هوياتهم، وفى مراجعة منشوراتهم قبل بثها.
بالنظر إلى خطورة عملية الاتصال الجماهيرى والتداعيات الهائلة، التى يمكن أن تترتب على تركها تعمل من دون تقييم وضبط، فإن تلك الوسائط مُنحت فرصة لم تعرفها البشرية منذ أربعة قرون؛ إذ باتت قادرة على أن تستضيف وسائل إعلام مكتملة الأركان، وأن تمنح لها مميزات البث المستدام والذيوع المطلق من دون أى قدر من المحاسبة أو المساءلة.
واحدة من النتائج التى يمكن توقعها ببساطة بسبب تلك الصيغة الفريدة أن حجم المعارف والمعلومات الفاسدة المتداولة يمكن أن يغرق الحقائق وأن يستبعد الإفادات القابلة للإثبات عن الساحة المعلوماتية.
قبل عامين، أعلنت شركة «إبسوس» أنها أجرت استطلاعاً دولياً على عينة من 25 ألف شخص، فى 25 بلداً، أفاد خلاله 86% من المستطلعة آراؤهم الذين يستخدمون «الإنترنت» بانتظام أنهم تلقوا أخباراً مزيفة عبر وسائل «التواصل الاجتماعى».
لا يتعلق الأمر بوسائط مثل «فيس بوك» و«تويتر» و«إنستجرام» فقط، فثمة تطبيقات «تواصل» أخرى تلعب أدواراً خطيرة فى هذا المجال، خصوصاً تلك التى توفر خدمات التراسل؛ مثل «واتساب»، الذى يلعب دوراً متصاعداً فى هذا الصدد عبر تقنية إنشاء «الجروبات» (المجموعات) التى تتحول فعلياً إلى منصات إعلامية نشطة ومؤثرة.
يقتضى الإنصاف القول إن تلك التطبيقات التى توفر خدمات التراسل لعبت أدواراً إيجابية مميزة، خصوصاً خلال فترة الحظر فى أعقاب تفشى جائحة «كورونا»، إلى حد أن بعضها بات جزءاً رئيسياً وأداة جوهرية فى إدامة الأعمال وتسييرها، وهو أمر اتسع ليشمل الجهات الحكومية ومنظمات الأعمال والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام الجماهيرية نفسها.
لكن تلك التأثيرات الإيجابية رافقتها للأسف مجموعة من التأثيرات الضارة التى يمكن أن تقوض مردودها الإجمالى، وفى هذا الصدد يرصد مركز «ديجيتال فرونسيك ريسيرش لاب» الأمريكى المختص فى رصد التضليل الإعلامى، تداول إفادات «تصب الزيت على النار بين أتباع نظريات المؤامرة»، وتفسد بيئتهم المعلوماتية، وتشجعهم على اتخاذ القرارات الخاطئة.
للأسف الشديد فإننا لا نمتلك فى مصر قدرات بحثية ملائمة لتقصى الحالة المعلوماتية وسبر أبعادها فى ظل انتشار الاعتماد على تلك الوسائط فى الحصول على المعلومات وبناء المعرفة.
ومع ذلك، فإن الملاحظة البسيطة لعدد من «جروبات الواتساب» تشير إلى مخاطر جمة فى ما يتعلق بحجم الإفادات الشاذة والمأفونة التى يتم تداولها عبرها.
من جانبى، أمكننى رصد أعمال تضليل منسقة ومدبرة عبر تلك «الجروبات» فى ما يخص أربعة مجالات رئيسية؛ أولها موضوع «سد النهضة» الإثيوبى وموقف مصر منه، وثانيها موضوع «كورونا» واللقاحات المضادة له، وثالثها يتعلق بسير ومواقف زعماء وقادة سياسيين حاليين وسابقين، ورابعها يختص بالأحداث المهمة التى تجرى فى إقليم الشرق الأوسط راهناً والمواقف من القوى الفاعلة المؤثرة فيها.
يجرى بانتظام بث معلومات لا مصادر لها ولا أساس يدعمها من الوقائع بخصوص تلك المجالات الأربعة بشكل يخدم وجهة نظر واحدة تقريباً يمكن تلخيصها كما يلى: «مصر تتواطأ ضد مصالحها فى موضوع (سد النهضة)، الذى سيأخذها إلى العطش والخراب، و(كورونا) مؤامرة، واللقاحات وسيلتها لقتل الناس والسيطرة عليهم، وزعماؤنا السياسيون خونة وفاسدون وفاشلون، وما يجرى فى المنطقة ليس سوى مؤامرة غربية كبرى عليها لإضعافها وإذلالها».
ومما يثير الأسف حقاً أن بعض الذين يستسلمون لهذه الإفادات ويتبنونها عبر إعادة الإرسال من النخب الذين حصلوا على تعليم عالٍ وشغلوا مناصب مهمة.
نحتاج فى مصر إلى قيام مؤسسات بحثية موثوقة بإجراء بحوث واستطلاعات رأى لتقصى أبعاد أزمة المعلومات المتداولة عبر هذه الوسائط، خصوصاً تلك التى يجرى تداولها فى المجموعات المغلقة على تطبيقات التراسل.
وبموازاة ذلك، نحتاج إلى ورشة وطنية تندرج ضمن أنشطة التثقيف الإعلامى والمعلوماتى لتوعية الجمهور وتعزيز مناعته فى مواجهة ميليشيات التضليل الإلكترونية.