فى «نيوبورت» بمقاطعة ويلز البريطانية، اختتم حلف شمال الأطلسى (الناتو) قمته فى نهاية الأسبوع الماضى، بالتأكيد على أهمية الحلف وضمان مستقبله بوصفه الرابط الأساسى بين أمريكا الشمالية وأوروبا، فى وقت يواجه فيه الحلف تحديات من روسيا ومن المجموعات المتطرفة و«الإرهاب الدولى» بحسب تسمية الحلف فى أوراقه الرسمية، شهدت القمة إعادة تركيز اهتمام الحلف بأمن أوروبا والإعلان عن إعداد قوة تحمل اسم (رأس الحربة) لتنفيذ مهام أمنية، هذه القوة الجديدة التى من المتوقع أن يصل تعدادها إلى بضعة آلاف هدفها «المعلن» ضمان أمن أوروبا من روسيا، فالقمة اتفقت مبدئياً على إعادة هيكلة (قوة الرد السريع) المكونة من 13500 عنصر أمن، لتكون أسرع وأكثر حيوية فى التحرك، ومنها ستخرج (قوة رأس الحربة) القادرة على الانتشار فى أى مكان بالعالم خلال 48 ساعة، كما يخطط الحلف، على عكس قوة الرد السريع التى كانت عادة تحتاج إلى 5 أيام على الأقل، والمؤشرات الأولية تحدد دول البلطيق وبولندا ورومانيا بأنها مستعدة لاستضافة قواعد جديدة لتلك القوة الوليدة على عجل، يبدو الأمر مرتبكاً للغاية رغم ما يحاوله قادة الأطلسى فى الظهور بالجدية والاتزان الانفعالى، فروسيا بالأساس لم تضع فى حساباتها المستقبلية أى تهديد عسكرى لتلك الدول التى يذكرها الحلف بالاسم، والأمر فى أوكرانيا له سياق مختلف تماماً عن استدعاء أجواء الحرب الباردة التى تقوم به أمريكا داخل أروقة الحلف، فأى مهام أمنية ستقوم بها تلك القوات مع روسيا التى ستخوض فقط صراعاً اقتصادياً عنوانه العقوبات، وآخر سياسياً ضد مناطق نفوذ وتحالفات الأطلسى وهو ما استعدت له موسكو جيداً!!
اتفق قادة الحلف على ضرورة زيادة الإنفاق العسكرى للدول الأعضاء، وتطوير المعدات العسكرية والسلاح النوعى، فى الوقت نفسه الذى يستعد الحلف للمرحلة المقبلة بالتركيز على أمن المعلومات وحماية فضاء المعلومات من أى تهديد، أندرس راسموسن، أمين عام الحلف تحدث بأن القمة حققت نجاحاً فى التوصل إلى «طرق لتحسين قدراتنا العسكرية، كما حسنت علاقاتنا الأمنية»، بينما لم تنجح الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فى فرض إجماع بين الدول الأعضاء على التعهد بزيادة الإنفاق العسكرى لكل دولة ليصل إلى 2% من إجمالى الناتج المحلى، لذلك نص البيان الختامى على تعهد الدول الأعضاء بالوصول إلى هذه النسبة خلال العقد المقبل، كان لراسموسن تصريح موجز ولافت أسهب فى تفصيله خلال جلسات القمة «فى قطاع الأمن تحصل على ما تدفعه، فمن دون الأمن لن نتمتع بالرفاهية».
مشيراً إلى ضرورة الاستثمار فى هذا القطاع، لذلك كان الرجل أكثر صراحة وهو يتحدث إلى قادة الدول الأعضاء عندما لفت أنظارهم بأن خلال السنوات الخمس الماضية استثمرت روسيا بزيادة 50% فى قطاعها العسكرى، بينما إنفاق (الناتو) تراجع بنسبة 20%، وأقر بوجود خلافات كبيرة بين الأعضاء حول نسب الإنفاق العسكرى، مما أدى إلى عدم الاتفاق على تنفيذ نسبة 2% فوراً.
أثناء فترة انعقاد القمة كلف من داخلها أحد مسئولى الأمن البارزين فى الناتو والموجود بغرفة عمليات الحلف «بأربيل كردستان العراق»، بأن يعقد اجتماع سريع مع ممثل إيران الموجود هناك أيضاً ويبلغه بضرورة إحداث نقلة نوعية فى تسليح «قوات البشمركة» لإحداث تغير ملموس فى مواجهة «داعش» على الأرض، التقطت إيران الإشارة سريعاً فى الوقت الذى كانت لديها معلومات عن التحالف المزمع تكوينه بعد ساعات من انتهاء القمة لمحاربة داعش والإرهاب، فذهب السلاح الإيرانى على الفور إلى أربيل وخرج السيد على خامنئى فى خطبة الجمعة يعلن حرص النظام الإيرانى على التواصل مع القيادات العسكرية الأمريكية لضمان التنسيق فى محاربة الإرهاب.
الذى قطع الطريق أمام هذا التلهف والتعجل الإيرانى جاء فوراً من إسرائيل الغائب الحاضر فى ترتيبات الناتو طالما الأمر يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، رفضت إسرائيل بحسم أى تعاون ظاهر ما بين الحلف وإيران كدولة وتوافق على أن يبقى حدود الدور الإيرانى محصوراً فى التكليفات الاستخباراتية غير المعلنة التى تتم عن طريق غرفة عمليات أربيل أو أمريكا مباشرة، وفى تقديرها أن إيران تقدم المطلوب وزيادة لكن يمكن استبدالها بتركيا كطرف إقليمى قد يحتاجه الحلف خلال ترتيباته المستقبلية، واستجاب الحلف للتحفظ الإسرائيلى وأعلنت أمريكا خلال ساعات أنه لا صحة لما تم إعلانه عن وجود تعاون ومشاركة إيرانية فى الحرب على الإرهاب بالمنطقة، وطار تشاك هيجل مباشرة بعد القمة إلى أنقرة للاجتماع بأردوغان للتباحث فيما هو مقبل.
قاعدة تشكيل التحالف الجديد بجدة الذى أعلن عنه بعد ساعات من فض قمة الناتو بالتأكيد كانت تحتاج لبعض من التنظيف، وترتيب المقاعد قبل اجتماع الخميس الماضى الذى يبدو الغاطس منه أكبر بكثير مما هو ظاهر وأوسع منه امتداداً تحت سطح الماء، تولت الولايات المتحدة مسألة التنظيف عبر ثلاثة تحركات سريعة أولها تبريد الأرض اليمنية لأقصى درجة ممكنة، فبعد حصار الحوثيين لصنعاء وبدء نذر سقوط اليمن إلى الهاوية انفرجت الأزمة فى 24 ساعة دون تحقق أى من أسباب الاشتعال، الثانية والثالثة كانا من نصيب دولة قطر فبدفع أمريكى مباشر قامت قطر بإعلان خروج سبعة من قيادات الإخوان من حضانة الدوحة، ووجهت «جبهة النصرة» بالإفراج عن أسرى قوات الأمم المتحدة بالقرب من الجولان دون تنفيذ أيضاً أى من مطالب الجبهة المعلنة كسبب للاحتجاز!!
إيران عبر «لارجانى» بدأت فى مهاجمة التحالف إعلامياً وتركيا تمارس التمنع أمام طلبات الناتو باستخدام أراضيها فيما هو مقبل، وأربيل تحولت إلى كعبة مفاجئة تتنافس عليها ألمانيا وفرنسا، فما هو هذا القادم الذى دفع كل هذه التحركات إلى السطح دفعة واحدة، ومتى ستصل (قوات رأس الحربة) إلى الشمال السعودى ومن سيعوض الخلل المالى لحلف الناتو أمام الدب الروسى؟؟ تلك بعض من ثلوج الجبل الكبير التى سنعاينها لاحقاً إن شاء الله.