لم أتمكن من تجاهل ذلك الفيديو الذى انتشر فى أول أيام اختبارات الثانوية العامة التى جرت مؤخراً لإحدى الطالبات وهى منهارة من البكاء أمام إحدى اللجان لأنها أخطأت فى «بعض» الأسئلة.. بينما تصرّح والدتها -التى تشترك معها فى البكاء والصراخ والدعاء على كل القائمين على التعليم- بأن صعوبة الامتحان أمر كارثى لأنهم «لن يحصلوا على الدرجة النهائية بهذا الشكل»!!
لم أفهم أبداً قيمة أن يحصل الجميع على الدرجات النهائية فى امتحان ما.. كما لم أستوعب كيفية التقييم إن حدث هذا.. فقد حصلت على الثانوية العامة منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً.. ووقتها لم تكن فكرة الحصول على مجموع يقترب من الـ١٠٠٪ وربما يتجاوزها متاحة بأية حال.. بل إننى أذكر أننى التحقت بكلية الطب بمجموع يزيد قليلاً على الـ٩٠٪.. وكان وقتها إنجازاً ينبغى تثمينه!!
يخبرنى ابن أحد الأصدقاء بأن المدرّسين فى مدرسته الخاصة يمرون عليهم فى وقت الامتحان ليجيبوا لهم عن الأسئلة الصعبة.. بل ويفتخر أمامى بأنه تمكّن من الحصول على كل الإجابات من مدرس المادة الذى يمنحه وطلبة المدرسة كلها تقريباً درساً خاصاً!
تفهم تلك المدارس الخاصة أولياء الأمور جيداً.. يعرفون أن إرضاءهم أهم بكثير من قياس قدرات أبنائهم بشكل حقيقى.. هم بهذه الطريقة يضمنون أن تظل نتيجتهم مرتفعة.. وبالتالى يظل الطلبة يُقبلون عليهم!!
أسوأ ما قدمه لنا مشروع التعليم الجديد الذى يتبناه الوزير طارق شوقى هو تلك الحقيقة التى كشفها للجميع.. أن أحداً لا يريد تعليماً حقيقياً ولا تقييماً عادلاً.. فقط يريدون مساراً محدداً دون تمييز.. ودون أدنى محاولة لتوسيع المدارك لاستيعاب الهدف من كل ما يحدث!!
الرجل منذ ظهوره الأول فى المجلس الاستشارى الرئاسى منذ عدة أعوام بدا حاملاً رؤية واضحة لملف التعليم ما قبل الجامعى.. وممتلكاً لطموحات واسعة أن يتمكن من إعادة هيكلة النظام بأكمله ليقضى على كل ما تفشى فيه من أمراض مزمنة جعلته كياناً وهمياً أقرب للتظاهر منه للحقيقة.
لقد أصبح الطالب يتظاهر بأنه يتعلم فى المدرسة.. بينما ينتظر جرس انتهاء اليوم الدراسى ليبدأ «مدرسته الخاصة» عبر دروس فى كل المواد.. والمدرس يتظاهر بالتدريس.. بينما يوفر طاقته وذهنه لدروسه الخاصة التى تُدر عليه الدخل الأكبر الذى يعتمد عليه فى حياته.. حتى الأهل يتظاهرون بأنهم مقتنعون بأن المدرسة هى الأساس، ويطالبون بإصلاح النظام التعليمى بل ويعارضون الحديث عن مجانية التعليم باعتبارها حقاً دستورياً أصيلاً.. كل هذا وهم يدركون فى قرارة أنفسهم أنه لا يوجد ما يسمى «مجانية التعليم» فى ظل كل ما يدفعونه شهرياً للدروس الخصوصية!
المشكلة أن الرجل ظهر للناس كصاحب مشروع أكثر منه وزيراً سياسياً أو إدارياً مخضرماً.. لم ينجح فى تسويق مشروعه بشكل سليم وبقاعدة مجتمعية داعمة له بالشكل الكافى.. كما لم ينجح فى إعادة هيكلة الوزارة نفسها بما يضمن تحقيق أهدافه دون معوقات داخلية ربما كانت أخطر بكثير من كل التحديات الخارجية التى كانت ولا تزال تواجهه!!
يُحسب للوزير صموده الذى استمر حتى هذه اللحظة.. كما يُحسب له أنه بدأ فى القضاء على فكرة الامتحان الذى لا يقيّم أحداً وإنما يمنح الجميع درجاته كاملة فحسب.. وأتمنى أن يقف الوزير أمام الإخفاقات التى حدثت خلال الفترة الماضية ليستوعب أماكن الخلل.. ويعيد ترتيب أوراقه من جديد ليستكمل مشروعه.. فمستقبل أولادنا يستحق.. أو هكذا أعتقد!!