«فتلقى آدم من ربه كلمات» فيها ثمانى مسائل:
الأولى: قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات، تلقى قيل معناه فهم وفطن وقيل قبل وأخذ، وكان عليه السلام يتلقى الوحى أى يستقبله ويأخذه ويتلقفه، تقول خرجنا نتلقى الحجيج أى نستقبلهم، وقيل: معنى تلقى تلقن.
الثانية: واختلف أهل التأويل فى الكلمات هى قوله «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين»، وعن مجاهد أيضاً سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربى ظلمت نفسى فاغفر لى إنك أنت الغفور الرحيم، وقالت طائفة رأى مكتوباً على ساق العرش «محمد رسول اللَّه» فتشفع بذلك فهى الكلمات، وقالت طائفة: المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء، وقيل: الندم والاستغفار والحزن، قال ابن عطية وهذا يقتضى أن آدم عليه السلام لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود، وسئل بعض السلف عما ينبغى أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه «ربنا ظلمنا أنفسنا.. الآية»، وقال موسى «رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى»، وقال يونس «لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين». وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن الكلمات «سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسى فاغفر لى إنك خير الغافرين، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسى فتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم»، وقال محمد بن كعب هى قوله «لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسى فتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسى فارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسى فارحمنى إنك أرحم الراحمين» وقيل: الكلمات قوله حين عطس «الحمد لله».
الثالثة: قوله تعالى: «فتاب عليه» أى قبل توبته، أو وفقه للتوبة. وكان ذلك فى يوم عاشوراء فى يوم جمعة على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى. وتاب العبد رجع إلى طاعة ربه، وعبد تواب كثير الرجوع إلى الطاعة، وأصل التوبة الرجوع يقال تاب وثاب وآب وأناب: رجع.
الرابعة: إن قيل: لمَ قال عليه ولم يقل عليهما وحواء مشاركة له فى الذنب بإجماع، وقد قال «ولا تقربا هذه الشجرة»، و«قالا ربنا ظلمنا أنفسنا»؟ فالجواب أن آدم عليه السلام لما خوطب فى أول القصة بقوله «اسكن» خصه بالذكر فى التلقى، فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضاً فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها فى المعصية فى قوله «وعصى آدم ربه فغوى»، وأيضاً لما كانت المرأة تابعة للرجل فى غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى فى قوله «ألم أقل لك»، وقيل: إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها، إذ أمرهما سواء، قاله الحسن وقيل: إنه مثل قوله تعالى «وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها»، أى التجارة لأنها كانت مقصود القوم، فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما، والمعنى متقارب، وقال الشاعر: رمانى بأمر كنت منه ووالدى... بريئاً ومن أجل الطوى رمانى.
وفى التنزيل «واللَّه ورسوله أحق أن يرضوه» فحذف إيجازاً واختصاراً.
الخامسة: «إنه هو التواب الرحيم»، وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر فى القرآن معرفاً ومنكراً واسماً وفعلاً، وقد يطلق على العبد أيضاً تواب، قال الله تعالى «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين»، قال ابن العربى ولعلمائنا فى وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز فى حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما فى الكتاب والسنة ولا يتأول، وقال آخرون: هو وصف حقيقى لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة، وقال آخرون: توبة الله على العبد قبوله توبته، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى قبلت توبتك، وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع فى قلب المسىء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة.
السادسة: لا يجوز أن يقال فى حق الله تعالى تائب، اسم فاعل من تاب يتوب، لأنه ليس لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين، وإن كان فى اللغة محتملاً جائزاً هذا هو الصحيح فى هذا الباب على ما بيناه فى (الكتاب الأسنى فى شرح أسماء اللَّه الحسنى) قال اللَّه تعالى: «لقد تاب اللَّه على النبى والمهاجرين والأنصار»، وقال: «وهو الذى يقبل التوبة عن عباده»، وإنما قيل لله عز وجل تواب لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه.
السابعة: اعلم أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة، لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال خلافاً للمعتزلة، ومن قال بقولهم، وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه، قال علماؤنا وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم فى الدين، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله جل وعز، وجعلوا لمن أذنب أن يأتى الحبر أو الراهب فيعطيه شيئاً ويحط عنه ذنوبه افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
الثامنة: قرأ ابن كثير «فتلقى آدمَ من ربه كلمات»، والباقون برفع آدم ونصب كلمات، والقراءتان ترجعان إلى معنى، لأن آدم إذا تلقى الكلمات فقد تلقته، وقيل لما كانت الكلمات هى المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبوله إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعلة، وكأن الأصل على هذه القراءة «فتلقت آدم من ربه كلمات»، ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث، وهذا أصل يجرى فى كل القرآن والكلام، إذ جاء فعل المؤنث بغير علامة، ومنه قولهم «حضر القاضى اليوم امرأة»، وقيل: إن الكلمات لما لم يكن تأنيثها حقيقياً حملت على معنى الكلم، فذكر وقرأ الأعمش «آدم من ربه» مدغماً، وقرأ أبونوفل بن أبى عقرب «أنه» بفتح الهمزة على معنى لأنه، وكسر الباقون على الاستئناف، وأدغم الهاء فى الهاء أبوعمرو وعيسى وطلحة، فيما حكى أبوحاتم عنهم، وقيل: لا يجوز لأن بينهما واواً فى اللفظ لا فى الخط، قال النحاس أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو، وأنشد: له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير، فعلى هذا يجوز الإدغام وهو رفع بالابتداء «التواب» خبره، والجملة خبر «إن» ويجوز أن يكون «هو» توكيداً للهاء، ويجوز أن تكون فاصلة، على ما تقدم، وقال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شىء غير النسر فى البر والحوت فى البحر، فكان النسر يؤوى إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم قال: يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض شىء يمشى على رجليه ويبطش بيديه، فقال الحوت لئن كنت صادقاً ما لى منه فى البحر منجى ولا لك فى البر منه مخلص.