تستطيع إسرائيل أن تتعايش، وفق تقديراتها الأمنية، مع محيط مضطرب بالأحداث، ومشتعل بالعنف والتهديد الإقليمى العام، لكن لدرجة معينة هى تقدرها بمنتهى الدقة، فالحرب الأهلية التى تدخل عامها الثالث فى سوريا وهى ما توصف بأنها المنتج الأحدث والأكثر تطوراً وعنفاً ودموية من الحروب الأهلية المعتادة، تدور رحاها على مرمى حجر من الحدود الإسرائيلية، ومع ذلك استطاعت إسرائيل التعاطى معها بهدوء شديد ولم تُضبط ولو مرة واحدة وقد انزلقت قدماها فى هذا المستنقع الدامى، فقط هى حققت نصراً استراتيجياً يعزز نظرية الأمن لديها عندما استغلت المجتمع الدولى بقيادة الولايات المتحدة، فى دفعه نحو تجريد النظام السورى من مخزون أسلحته الكيماوية خشية تسربها إلى أيدى الجماعات المسلحة التى كانت وقتها تحرز تقدماً غير محسوب فى الاستيلاء على مناطق ومعسكرات تابعة للجيش العربى السورى، وقد استجاب المجتمع الدولى لهذا الدفع الإسرائيلى ووضعت بالفعل هذه النقطة على رأس بنود الصفقة التى كانت تتم ما بين حلف الناتو من جهة وما بين النظام السورى وروسيا من جهة أخرى، وخضع حينها الطرف السورى إفلاتاً من ضربة عسكرية وشيكة كان سيتلقاها من قوات الحلف لولا هذه التخريجة التى أصرت عليها إسرائيل ونفذتها روسيا.
بعد تحقيق هذا النصر الاستراتيجى، ووفق نفس نظرية الأمن الإسرائيلية، تركت إسرائيل كل الأطراف المحيطة بها تنهك نفسها بنفسها، وظلت مراقبتها عن كثب بشكل دقيق تحقق لها القدرة على التدخل السريع إذا خرجت الأوضاع عما هو مقدر لها. مؤخراً، وأثناء فترة صعود تنظيم داعش الصاروخى داخل الأراضى العراقية، تقدمت جبهة النصرة لتقوم بعملية ضد وحدات الجيش السورى وقوات حفظ السلام الدولية الموجودة على خط التماس فى القنيطرة بالجولان، وباستيلاء مقاتلى جبهة النصرة على النقطة الحدودية مع الجانب الإسرائيلى واحتجاز مجموعة من القوات الدولية دقت أجراس الخطر والإنذار الإسرائيلية إيذاناً بأن الوضع على الأرض يحتاج إلى معالجة من نوع مختلف، فرغم اليقين الإسرائيلى «التام» بأنها ليست على لائحة أهداف تلك الجماعات، داعش أو النصرة، فإنها كانت أمام موازين قوى تحتاج منها إلى وقفة.
هذا اليقين الإسرائيلى «للأسف» يشكل لنا نحن المواطنين العرب مفارقة سوداء، فهى الحقيقة الساطعة أمامنا بكل وضوح، فتلك الجماعات التى ترفع رايات جهادية إسلامية مزيفة أراقت الكثير من الدماء العربية وأنهكت الدول التى تعمل على أراضيها بصورة غير مسبوقة، دون توجيه حجر واحد ضد إسرائيل، الدولة التى تحتل حتى الآن أحد مقدساتنا فى أرض فلسطين المحتلة.
إسرائيل، وفق هذا المفهوم من نظرية أمنها، خاضت العدوان الأخير على قطاع غزة، ليس رداً على صواريخ أو عمليات اختطاف لمواطنيها، هى بشكل مباشر وأكثر وضوحاً تقوم بتأمين حدودها من خلال إجهاض أى اختلال فى ميزان للقوى تسمح به على حدودها من أى جانب، وهى تقوم تحت ذرائع مختلفة بضرب قطاع غزة كل ثلاثة أعوام تقريباً حتى يبقى عند مستوى معين يسهل لها التعامل معه، وقد تحدثت صراحة حول ذلك للرأى العام الداخلى لديها فى تبرير سبب قيامها بعمليات كلفتها أموالاً ونحو 80 قتيلاً فى صفوفها.
الهدف الذى لن يتحدث عنه أحد من أطراف التحالف الجديد أن المنطقة برمتها تحتاج إلى ضربات إنهاك لكل الأطراف المسلحة، ووجوب إرجاع قدراتها المسلحة إلى الخلف خطوات بعد أن وصلت إلى درجة الخطر، وإسرائيل القادرة حتى اللحظة على تحريك قوات الناتو والسياسة الأمريكية تحتاج إلى درجة أكثر تقدماً فى تبريد حدودها التى باتت تنذر بخطر الخروج عما هو مخطط له، وهو هدف أصيل وبالغ الأهمية فى قيام التحالف ضد الإرهاب.