يحكى أن أحد أباطرة اليابان فى القرن التاسع عشر -تلك الفترة التى كانت فيها اليابان ما زالت تبحث عن نهضتها الأولى- قد أرسل بعثات تعليمية متعددة لأوروبا ليكونوا نواة للنهضة التى يحلم بها لبلاده، فلما عادوا أقام لهم حفلاً كبيراً فى قصره، وأخذ يسألهم عما تعلموه فى بعثاتهم، فأجاب أحدهم أنه تعلم اللغات، وأجاب آخر أنه تعلم الموسيقى، وأجاب ثالث أنه قد تعلم المنطق، فسألهم عن جدوى ما تعلموه للمساهمة فى التطور الذى يحلم به، فلم يجد عند أحدهم جواباً شافياً، فما كان منه إلا أن أصدر حكماً فورياً بإعدام هؤلاء الطلبة، فأُعدموا فى الحفل الذى أعد للترحيب بهم! وأمر بإرسال بعثات جديدة تتعلم علوماً يمكن أن تفيد فى نهضة بلاده.
وعلى الرغم من أن القصة مشكوك فى صحتها، فإنها تدل على فهم عميق لمتطلبات النهضة من ذلك الإمبراطور «الدموى»، فهو لم يحتقر العلوم التى تعلمها الطلبة، إلا أنه اعتبر أن عدم معرفتهم بجدواها لبلادهم خيانة عظمى، أو على أقل تقدير غباء، فتخلص منهم على سبيل الاحتياط. لا شك أن التعليم الحكومى يعانى منذ فترة ليست بالقصيرة، وتزداد معاناته فى كل عام، الأمر الذى جعل الكثيرين من القادرين أو حتى من غير القادرين يتجهون إلى التعليم الخاص الذى يعتمد على تعلم اللغات وتعلم العلوم بلغات أجنبية، بل وتمنح الطلاب شهادات أجنبية بجوار الشهادات المصرية، فى اعتراف ضمنى بضعف الشهادة المحلية ونجاح النموذج الغربى فى التعليم. المشكلة أن هذه النوعية من التعليم من المفترض أن ترفع من المستوى الثقافى والعلمى، بل وأسلوب التفكير لدى التلاميذ، وتمنحهم فرصة لأن يستفيدوا بالفكر الغربى فى تنمية المجتمع، بل وترسخ أسس التفكير المنهجى السليم والديمقراطية الحقيقية، ولكن للأسف فهذه النوعية من المدارس على الرغم من انتشارها فى مصر خلال الأعوام الأخيرة، لم تساهم سوى فى زيادة الغربة بين هؤلاء الطلبة وما حولهم، ولم يستفد أحد من خريجيها سوى أنهم ابتعدوا عن مشكلاتهم الحقيقية، وانغمسوا فى مشكلات مرفهة، لا تنتمى إلى الواقع الذى تمر به البلاد. لقد كان المشهد كئيباً من وجهة نظرى حين دخلت مكتبة شهيرة بأحد الأحياء الراقية، لأجد القسم العربى بها شبه خالٍ، بينما يزدحم القسم الإنجليزى فيها بمن هم دون الخامسة عشرة، وهم يقلبون فى الكتب ليبحثوا عن كتاب جديد ليقرأوه.
لا ينكر أحد أن القراءة بلغات مختلفة توسع الإدراك وتزيد من ثقافة ووعى ذلك الشاب الذى لم يتجاوز مرحلة دراسته الثانوية، ولكن الطريقة التى تتبع لتوصيل العلوم الغربية فى تلك المدارس لا تجعل منه عضواً فاعلاً فى مجتمعه، قريب من مشكلاته، بل وأيضاً تجعله عرضة للتدليس ودس الأفكار المسمومة بين صفحات تلك الكتب، حيث إنه لم يبلغ من الإدراك أن يستوعب الصواب من الخطأ، ويعرف ما يصلح لمجتمعاتنا الشرقية وما لا يصلح.
لقد وضعت كل دول العالم نظامها التعليمى ليخرج مواطناً صالحاً بمقاييس المجتمع الذى يعيشون فيه، ولكننا نضع أنظمتنا التعليمية لنخرج مواطناً صالحاً بمقاييس مجتمعات أخرى.
ينبغى أن نعيد النظر فى مناهجنا التعليمية، وتحديداً الخاص منها، لتكون أقرب للواقع المحيط. ينبغى أن تحتوى المناهج على تطبيقات عملية، ليتعلم الطالب كيف سيساهم بعلمه فى نهضة مجتمعه، بدلاً من أن يتعالى عليه، ويخلق لنفسه مجتمعاً زائفاً، يستطيع أن يتعايش معه بما تعلمه ولم يعلم فائدته.