سألته ذات مرة كيف تستطيع النجاح فى كل المناصب التى توليتها؟ وكيف تستطيع التوفيق بينها جميعاً؟ أجاب بأنه يعمل أكثر من 18 ساعة يومياً، وأن النجاح يفتح الشهية لمزيد من النجاح، ويمنحك القوة والطاقة على الاستمرار..
إنه الإعلامى الكبير حمدى الكنيسى، الذى تولى مناصب كثيرة فى الوقت نفسه، فكان رئيساً للإذاعة المصرية ورئيس مجلس إدارة مجلة الإذاعة والتليفزيون وأمين عام نادى الإعلاميين وأمين عام مهرجان الإذاعة والتليفزيون وعضو مجلس الشعب ووكيل لجنة الثقافة والإعلام فى المجلس، وعضو مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر، كما كان عضواً بمجلس إدارة اتحاد كرة القدم، وأيضاً بمجلس إدارة النادى الأهلى، ومستشاراً إعلامياً لمصر فى الهند وبريطانيا.
الكنيسى هو مؤسس إذاعة الشباب والرياضة وبعض الإذاعات المتخصصة، وأحد رواد الإعلام العربى، وله الكثير من المؤلفات والروايات الأدبية، كما أسهم فى انطلاق بعض القنوات الفضائية، وبعد ساعات من عبور قواتنا المسلحة خط بارليف الحصين يوم 6 أكتوبر 73، كان الكنيسى فى بداية عمله الإذاعى، وطلب من محمد محمود شعبان «بابا شارو»، رئيس الإذاعة وقتها، السماح له بالذهاب إلى الجبهة، وأن يكون مراسلاً عسكرياً للإذاعة، وينقل صورة حية من ميدان القتال، وأمام إصرار وحماس الشاب الصغير وافق «بابا شارو» وعاش «الكنيسى» أهم لحظات فى عمر الوطن، بل وسطرها فى مؤلفات عظيمة، مثل «الطوفان»، و«الحرب طريق السلام»، و«أنا والرئيس» وغيرها.
ظل «الكنيسى» يقدم برنامجه الشهير «صوت المعركة» حتى بعد انتهاء حرب أكتوبر وفوجئ باستدعاء الرئيس السادات له فى استراحة القناطر، ليخبره أن برنامجه يسبّب صداعاً فى رأس إسرائيل، وقال له لقد عدّلت موعد تناول وجبة الغذاء حتى أستطيع متابعة برنامجك، وحينما قرر الرئيس السادات تكريمه بمنحه ترقية استثنائية، ولكنه رفض وطلب تكريماً لكل زملائه من خلال إنشاء نقابة تدافع عن حقوقهم، ذلك الحلم الذى ناضل كثيراً من أجله حتى تحقق مؤخراً، وكان أول نقيب للإعلاميين.
الجميع توقّع لـ«الكنيسى» أن يكون أديباً لحرب أكتوبر، ولكن العمل الإذاعى أخذ معظم وقته، وجاء على حساب موهبته الأدبية.
تعلمت من الكنيسى إما أن تخرج من وظيفتك كما دخلتها ولا يشعر بك أحد ولا يكون لك تأثير ولا يتذكرك الناس، لا بالخير ولا بالشر، وإما أن تكون مبدعاً وتضيف لعملك ومنصبك، ويمتد تأثيرك لكل المحيطين بك، وكان من حسن حظى أننى ارتبطت به فى بداية حياتى الإذاعية وجعلنى من المقربين إليه، فاستفدت كثيراً منه وكان مثلاً أعلى يُحتذى، كما شرّفنى بكتابة مقدمة أول مؤلفاتى.
حمدى الكنيسى نموذج للمسئول المثقف متعدد المواهب والاهتمامات، والذى يعشق النجاح ويكره الفشل، كما أنه نظيف القلب واليد واللسان وصاحب الأخلاق والتواضع الرفيع، محب لوطنه ومخلص لعمله.
وأظن أن مصر فى أشد الاحتياج إلى مثل هذه النوعية من المسئولين غير التقليديين.
كما أن شبابنا فى حاجة إلى مثله كقدوة طيبة تُحتذى فى زمن ندرت فيه القدوة وتدهورت القيم.
الإعلامى الكبير الأستاذ حمدى الكنيسى، الذى رحل عن دنيانا أمس الأول شارك فى تشكيل وعى أجيال، وصاحب فكر أسهم فى إعلام رصين، ورياضى له مدرسته القائمة على المبادئ الأخلاقية.. رحم الله الفقيد الكبير وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وأهله وكل تلاميذه ومحبيه الصبر الجميل و«إنا لله وإنا إليه راجعون».