فى يونيو من العام 2019، نشرت «بى بى سى» تقريراً بعنوان: «هل بدأ الشباب العربى يدير ظهره للتدين؟»، اعتماداً على نتائج استطلاع رأى أجراه «البارومتر العربى»، وهو شبكة بحوث تابعة لجامعة برينستون.
وقد توصل الاستطلاع الذى شارك فيه أكثر من 25 ألف شخص من سكان عشر دول بالمنطقة، فى الفترة من 2018 إلى 2019، إلى خلاصة صادمة؛ مفادها، كما تقول «بى بى سى»، أن «العالم العربى يُصور غالباً على أنه متدين ومتجانس سكانياً ومحافظ حضارياً، لكن بالاستماع إلى آراء سكان المنطقة ومشاعرهم، توصلنا إلى صورة مغايرة تماماً، إذ إن عدداً متزايداً من العرب يديرون ظهورهم للتدين باطراد».
وبموازاة نشر نتائج هذا الاستطلاع، أعلنت مجموعة التحليل وقياس التوجهات فى إيران «جامان» (GAMAAN) نتائج ما قالت إنه استطلاع لرأى 40 ألف شخص للتعرف على توجهات الإيرانيين الدينية. وتقول «جامان» إن 78 بالمائة فقط من المشاركين أفادوا بأنهم يؤمنون بوجود الله، وأن 32 بالمائة منهم فقط يعرِّفون أنفسهم كمسلمين شيعة. كما عرَّف 9 بالمائة من المستطلعة آراؤهم بأنفسهم كملحدين، وفقاً لنتائج الاستطلاع.
لا يبدو أن هذه النتائج، فى حال تحلَّت بالدقة والصدق المفترضين، مخالفة لنتائج استطلاعات مشابهة أجريت فى بيئات مختلفة؛ إذ قام عالم الاجتماع وأستاذ العلوم السياسية بجامعة ميتشجان الأمريكية، ومؤلف كتاب «تراجع الدين المفاجئ»، رونالد إنجليهارت، بتحليل استطلاعات رأى مماثلة فى أكثر من مائة دولة حول العالم، أجريت ما بين عامى 1981 و2020، وقد خلص إلى أن التحول السريع نحو العلمانية ليس حكراً على الشرق الأوسط، إذ إن هذا الأمر يحدث بوتيرة متسارعة فى مناطق أخرى من العالم.
وفى هذا الصدد، سنجد على سبيل المثال أن المكتب الأسترالى للإحصاء اضطر إلى أن يضع باب «بلا دين» على رأس الأبواب التى أجرى على أساسها إحصاء الحالة الدينية فى البلاد أخيراً.
ويعنى باب «بلا دين» فى صحيفة الاستبيان التى يقدمها المكتب الأسترالى للإحصاء، أو أى من مراكز البحوث واستطلاع الرأى الأخرى، أن بعض المستطلعة آراؤهم سيقرر اختيار تلك الخانة عند سؤاله: «ما دينك؟». واختيار الإجابة «بلا دين» لا تعنى بالضرورة أن صاحبها «مُلحد»، كما لا تعنى أيضاً أنه لم يولد على ديانة معينة، وربما يكون قد تم تعميده فى كنيسة، أو ذهب برفقة أسرته إلى الحج فى مكة، لكنه ببساطة شديدة لا يجد أنه مؤمن بدين محدد، ولا يعتقد فى أى من الرسالات الدينية التى نُصنفها سماوية أو غير سماوية.
وعندما تزيد رقعة «اللادين» فى مجتمع ما، فإن هذا الأمر يشير إلى تطور جوهرى فى الحالة الدينية لهذا المجتمع، لكن عندما تكون هذه الزيادة بوتيرة متصاعدة، وعندما تحدث فى أكثر من مجتمع فى مناطق مختلفة من العالم، فإننا نكون بصدد تحول عالمى مهم، وهو تحول لا يخص الحالة الدينية فقط، لكنه ينعكس بوضوح على السياسة والأمن والاستراتيجية والقيم والأخلاق وأنماط الحياة.
يقول مكتب الإحصاء الأسترالى إن نسبة من قالوا إنهم «بلا دين» ترتفع بمتوالية هندسية على مدى العقد الأخير، وهو أمر لا يقتصر على أستراليا فقط؛ بل إنه يحدث أيضاً فى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث أفادت دراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث بأن عدد البالغين الذين قالوا إنهم «يؤمنون بالله» ينخفض، فى وقت يتزايد فيه عدد هؤلاء الذين يقولون إنهم لا يؤمنون بأى ديانة.
وفى دراسة أجرتها جامعة «سانت مارى»، غرب لندن، ظهر أن ما نسبته 48.6%، أى نصف سكان بريطانيا تقريباً، «من دون ديانة».
من الضرورى جداً تقصى الأسباب التى دعت إلى تفاقم تلك الظاهرة، وزيادة رقعة «اللا دين» فى خريطة الحالة الدينية العالمية؛ وهى أسباب متنوعة، لكن العولمة، وتجلياتها الاتصالية خصوصاً، تأتى على رأسها.
ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، وهو السبب المتعلق بالتقدم العلمى المذهل، الذى حطم فى طريقه الكثير من التأويلات الدينية الخاطئة، والتى سبق أن ادعت ادعاءات خلطت بين العلمى والدينى، ثم فُجعت لاحقاً بظهور الحقائق العلمية التى كشفت زيف تلك التأويلات وتهافتها. ويأتى عقم الخطاب الدينى كسبب رئيسى من أسباب توفير الدعم للحالة الدينية الجديدة، خصوصاً عندما ينصرف هذا الخطاب عن كل قيمة وجوهر، ويُغرق أتباعه فى التفاصيل والقضايا الهامشية، ويعمد إلى التفسيرات الحرفية، والتأويلات الملتوية.
لكن التنظيمات الإرهابية، التى اتخذت العقيدة مطية لتسويغ جرائمها الشنيعة، تظل أهم الأسباب التى تدعم الظاهرة الجديدة المزدهرة، إضافة إلى التوظيف السياسى للدين، والانخراط فى الحروب الطائفية، الذى ينعكس لاحقاً فى صراعات مريرة بين أتباع الأديان والمذاهب.
تشير تلك النتائج بوضوح إلى تغير عميق فى الحالة الروحية العالمية، كما توضح أن الشرق الأوسط لم يكن بعيداً عن تلك التغيرات رغم طبيعته الخاصة وارتكازه الروحى عبر آلاف السنين.
من هنا نفهم لماذا تتوالى الدعوات إلى ضرورة تجديد الفكر والخطاب الدينيين، وإلى ضرورة تعزيز الوعى الروحى، وهى دعوات يجب أن تركز على ضرورة إنهاء الخلط المُسىء بين السياسى والدينى، باعتبار أن مرتكز الدولة الأساسى لا يكمن فى الوحدة المذهبية، أو تكريس رؤية محددة لـ«دين العموم»، بقدر ما يكمن فى حماية فضاء المواطنين الروحى، عبر احترام ضمير الفرد، وكرامته كإنسان، وصيانة حقه فى الاعتقاد، وممارسة الشعائر.