اتفقنا جميعاً على ضرورة إيجاد حل حاسم لمشكلة «الباعة الجائلين»، فكانت القرارات الحكومية الصارمة بضرورة إنهاء حالة الفوضى العارمة التى يسببها الباعة الجائلون فى «وسط البلد»، وصفّقنا جميعاً لهذه الخطوات التصحيحية رغم ما ارتآه البعض من سلبيات فى آلية المواجهة وتفاصيلها الفنية والتجارية، لكن هناك من هم أخطر أثراً وتأثيراً من الباعة الجائلين.. إنهم «الساسة الجائلون» الذين يتسكعون فى «شوارع الهوى» ذات الطابع السياسى الذى رسمت ملامحه قواعد الفوضى التى هبّت وما زالت على بلادنا من كل فج عميق، إن ظاهرة الساسة الجائلين ظهرت خلال السنوات الثلاث الماضية وشقت طريقها وسط ظروف استثنائية مستعينة فى ذلك بالشيطان والهوى والصرخات النارية أمام الكاميرات، لقد أنبتت الأرض المحترقة عشرات الائتلافات والأحزاب والتجمعات والكيانات.. جميعها دخل عالم السياسة من بوابات الفوضى المفتوحة دونما سقف من قوانين أو مبادئ أو مصلحة عامة، إننى لا أستطيع ولا أملك التعميم، فذاك أول طريق الضلال، لكننى أرصد ظاهرة أراها أخطر من ظاهرة الباعة الجائلين وأراها أعمق من ظاهرة العشوائيات، فالذين تسللوا إلى عالم السياسة ليمارسوها فرادى دونما أوعية سياسية حقيقية كأحزاب أو ما شابه ودونما إطار أيديولوجى محدد وواضح وله ملامحه ودونما أفكار إصلاحية أو حتى ثورية يمكن التقاطها ومناقشتها.. هؤلاء هم حقاً «ساسة جائلون» تحول معظمهم إلى «ساسة متسولين» على أعتاب السلطة ينتظرون، وعبر وسائل الإعلام يصرخون ويمثلون. لقد ساهمت وسائل الإعلام غير المنضبطة على موجة المصلحة الوطنية فى ترعرع وذيوع وانتشار هذه الظاهرة، لقد آمن هؤلاء بتلك المقولة أو شطرة الشعر التى تقول «هات مزماراً.. هات بوقاً.. هات طبلة.. واسحب كرسياً واجلس، فلقد صارت عندك دولة»، بيد أن الواقع السياسى المصرى مؤلم إلى درجة عدم الإحساس بالألم! فلا توجد أحزاب سياسية تمثل أوعية حقيقية لاستيعاب الكفاءات وتدريب الكوادر وتفريخ الساسة، ولا توجد قواعد أخلاقية تحكم ممارسة العمل العام بشكل يساعد على عملية الفرز الحقيقى فى المجتمع، ولا توجد رؤية للدولة للتعامل مع هذا الملف حتى على غرار ما قامت به الدولة فيما يخص الباعة الجائلين، لذلك حدث هذا الانسداد السياسى والاحتقان الانتخابى، ومن مظاهرها هذا الكم الهائل والمتعدد من حالات الإجهاض المتعمد لتلك الأجنّة المشوهة المسماة «التحالفات الانتخابية»، فالجميع يقبل أن يتحالف مع الشيطان شريطة أن يحصل على مقعد فى دنيا السلطة والبرلمان، والجميع يقسم أنه أمير فى دولة الزهد وليست له أطماع فى عالم السلطة والكراسى، وفى نهاية المطاف وجدنا فقراً وشحاً فى الكوادر السياسية حتى انتهى بنا المطاف إلى الاكتفاء بصب الزيت القديم فى دنان جديدة، ووضع القوالب المحنطة فى أردية جديدة، إن ممارسة السياسة والعمل بها يجب ألا يكون لهواة الشهرة والباحثين عن أدوار فى ظل غيبة أصحاب الأدوار الحقيقيين، فإذا كنا نبحث ونفتش عن لاعبى الكرة والمطربين من خلال عمليات وبرامج مرتفعة التكلفة، أفليس من الأولى أن يكون لدينا برامج وآليات للبحث عن ساسة حقيقيين بعيداً عن «الساسة الجائلين»؟