من الصعب، وفق الحسابات الدقيقة، تحديد مواصفات حالة العشق، تحديداً إذا كان شركاء الحالة مئات الملايين فى عشق الطيّبة الصابرة «بهية». كثيراً ما أسعدتنى صيغة المودّة التى تغلب على تساؤل زميلات وزملاء المهنة عن كيفية تسرُّب «جينات» أرض النيل إلى دمائى لتختلط بانتمائى إلى أرض الرافدين. الحقيقة أنى لست صاحبة الفضل فى ذلك، بقدر ما يعود إلى سحر خاص بمصر وأهلها.. يضاهى أسرار عبقرية حضارتها العريقة منذ التحنيط حتى الثورة على كل محاولة لسرقة ملامح شخصيتها المعتدلة السمحاء.
أحد أسرار مصر التى لم تكشف عنها بعد يكمن فى خلطة الدفء والحميمية التى تنساب مع مياه نيلها لتسرى فى دماء أهلها.. إذ من النادر أن تسمع فى أى بلد تعبيرات تداعب قلب أى ضيف مثل «انتى فى بلدك» أو «بقيتى خلاص مصرية مننا».. هى ليست مجرد مجاملة عابرة، بقدر ما تعبّر عن واقع يتسلل بنعومة إلى وجدان من اختار مصر سكناً وأمناً ليخلق حالة توحد مع أهلها وشوارعها ومبانيها.. ليست ازدواجية بقدر ما هى تداخل بين ملامح وخطوط حضارتين فى لوحة فنية واحدة. لأن العشق لا يعترف بأنصاف الحلول، تتضاءل السلبيات -التى تُعتبر أمراً وارداً فى كل عواصم العالم- رغم مبالغة البعض فى تقديرها، فحالة العشق المصرية ينطبق عليها أبيات شعر الإمام الشافعى «وعين الرضا عن كل عيب كليلة.. لكن عين السخط تُبدى المساويا».
ما زلت أذكر أول درس فى مرحلة الطفولة حين دخلنا مصر «إن شاء الله آمنين» يوم 3 أكتوبر 1973 لتبدأ بعد وصولنا بأيام معركة استرداد الكرامة العربية بتضحيات أغلى وأشرف رجال جيشها الوطنى، أول درس تلقيته الامتناع عن تناول السكر.. وما قيمة الأزمات التافهة ومصر تبذل الدماء ثمناً للكرامة العربية؟!. قبلها بثلاثة أعوام فى لندن أذكر دموع والدى تنساب لأول مرة مع إعلان الخبر الذى فجع العالم يوم وفاة الزعيم جمال عبدالناصر. فى الصباح ربط شارة سوداء على ذراعى لنشارك فى مظاهرة حاشدة إلى السفارة المصرية لتقديم التعزية.. قبل أن أعرف معنى مصر أو ناصر، كرهت الشماتة تنطلق عبر صوت كريه من شرفة إحدى البنايات يصرخ «عاش دايان!».
«كوكتيل» الاحتواء والحميمية يرتشف قطراته كل وافد إلى مصر، ما يجعل البُعد عنها مستحيلاً مهما بلغت درجة الانبهار بعواصم العالم المختلفة، بعد أيام لا يملك أحد سوى الاستجابة لمشاعر الحنين إلى أحضان قاهرة المعز وتلبية النداء اللذيذ ثم الاستسلام لمشاعر المحبة التى تغدقها «أم الدنيا» على عشاقها وهم كثر. عقد المحبة والألفة اكتمل بطبيعة المهنة ومكانها.. «روزاليوسف» المؤسسة العريقة التى تنطلق منها العقول الشابة المتحررة لا تعترف بالحدود الهشة، هى المدرسة التى أثرت دماء صاحبة الجلالة بأجيال شابة صنعت أسماءها عبر اقتحامها بجرأة ومهنية جميع الملفات الشائكة، لعل أهمها الحملات التى قادتها ضد الإرهاب حين حاول فى الثمانينات فرض وجهه القبيح، سواء عبر عمليات تستهدف السياحة أو أخرى وجهت هجوماً منظماً للنيل من مكانة الفنون والثقافة. بالإضافة إلى المهنية، كان النجاح يفرض فى «روزاليوسف» رابطاً خاصاً بين الصحفى والشارع بكل قضاياه وهمومه.
لم يكن غريباً أن تسبق خطواتى المسرعة أى تفكير وأنا أهرع إلى مبنى وزارة الثقافة عام 2013 لمشاركة زميلات وزملاء المهنة اعتصامهم طوال شهر يونيو.. مصر المعشوقة هى الحضن الدافئ الذى يجمع كل عربى ولن نسمح أن تسرق «عصابة» ابتسامتها ومشاعرها الفياضة لتحولها إلى مجرد جزء من «إمارة للخلافة الإسلامية». حسابات العقل لم تكن غائبة رغم فيض المشاعر، مصر القوية هى الضامن الأمنى والسياسى لمواجهة الإرهاب والفوضى التى تعم بعض دول المنطقة للأسف، والعمل على إيجاد حلول لأزماتها.
أخيراً.. شهادتى المحايدة بعيداً عن أى تحيز عاطفى هى محاولة لفك اللغز الذى يجعل مصر قريبة بكل ما تحتويه من معانٍ صادقة لم تجتحنى فى بلد آخر، خصوصاً فى أوروبا، حيث هناك أنت دائماً «غريب».. أما الحميمية التى تبلغ درجة التوحد مع الناس والأماكن والشوارع.. فلن تغمرك إلا فى مصر.