تلقت إسرائيل صفعة لن تنساها بهروب الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع المحصّن، وهو من أكثر السجون أماناً وتشديداً ويُعرف باسم «الخزنة الحديدية»، وعلى طريقة أفلام هوليوود السينمائية حفر الأبطال الستة بإرادتهم التى لا تلين حجارة الأرض، ورطبوا بعرقهم الرمال المتحجرة، وبملعقة صدئة بين أيديهم بدأوا الحفر بنقرة تحت حوض الماء داخل حمام زنزانتهم، حتى تصبح بعد دأب وصبر وأناة، دون ضجيج، نفق الحرية الذى أخرجهم إلى شمس نهار آخر! لقد اختاروا حريتهم بالمقامرة على حياتهم، هزموا مخاوفهم، ولاذوا بالفرار من «خرم إبرة»، إنها المعجزة التى هزت أركان إسرائيل، وضربت هيبتها فى مقتل، دولة الأمن المعززة بأعلى درجات التكنولوجيا والتقنيات الإلكترونية الأحدث فى العالم، هزمتها ملعقة صدئة وإرادة من حديد، وإيمان مطلق بأن ظلام الزنزانة المسيّجة بالقضبان المحكم، لا بد أن تشرق عليها شمس الحرية يوماً مهما طال الزمان.
لقد أعطى الأسرى الفارون إلى الحرية درساً قاسياً إلى إسرائيل، كنموذج اخترق كل منظومات الأمن الإسرائيلية الحديثة وتقنياتها المعقدة، صنعوا فعلاً خارقاً للمستحيل، فبدا طيّعاً مرناً فى أيديهم، وأكدوا أن قوة الإرادة والعزيمة والإصرار والتحدى والإيمان بالحق وحتمية النصر والاستعداد التام للتضحية، قادرة على صنع المجد وهزيمة الاحتلال، هذا الفعل البطولى يؤكد أن الكيان الصهيونى، الذى ينتج ويصدِّر أعقد أجهزة التنصت والاستخبار والتجسس إلى مختلف الأنظمة شرقاً وغرباً، فشل فى التنبه إلى أمتار قليلة من نفق حُفر بأناة ودأب وذكاء ليعيد إلى الأسرى الحق فى الحياة والانعتاق من أحكام المؤبد المضاعفة الجائرة، وفى نفس الوقت شكلت عملية الهروب ضربة قاضية لهيبة إسرائيل «الوهم» وبأنها إلى زوال مهما طال أمد الاحتلال، وربما المفزع لإسرائيل من تلك العملية المزلزلة لأمنها، هو كيفية احتواء ما حدث على الصعيد الداخلى فى إسرائيل، خاصة احتمالية تكرار عملية الهروب إلى الحرية بطرق مماثلة، وثانياً التعامل مع أى انفجارات غضب فلسطينية فى الأيام المقبلة، وهو الامتحان الأكثر ضراوة الذى ينتظر أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية، خاصة أن لجنة التحقيق المشكلة لإجلاء حقيقة ما حدث لم تتوصل إلى نتائج مؤكدة حتى الآن، رغم اللغط والشائعات التى أحاطت بعملية الفرار المركبة وما شابها من اجتهادات وتحليلات وتكهنات، حول أهداف وأبعاد عملية الهروب.
لقد أعطت عملية الهروب مثلاً رائعاً فى أن الحرية لا يضاهيها ثمن، وأن الشعوب الطامحة إلى حريتها لا يمكن أن تقهرها آلة القمع والطغيان والتجبر، وإسرائيل طغت وتجبرت كثيراً، وزادت فى توحشها ضد الأسرى على مدار العقود الماضية، ونالت من كرامة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين بطرق عدة، لكنها فشلت فى التغلب على تماسكهم، أو كسر إرادتهم، بل هُزمت هزيمة منكرة أمام تلك العملية الموجعة، التى هزت عرش إسرائيل، فهى بمثابة ضربة قاضية للمشروع الصهيونى برمته، ومنظومته الأمنية المحكمة، وفى نفس الوقت سجلت انتصاراً معنوياً كبيراً للفلسطينيين، ومذلاً لدولة الاحتلال.
فلدى المقاومين والمعتقلين إرادة لا تلين، ليس بمقدور السجان أن يكتشفها، أو يختبرها، فهى أكبر من كل التوقعات، وأقوى من كل آلات القمع والأسلحة الفتاكة، والأهم أنها أظهرت أكذوبة جيش الاحتلال الذى لا يقهر -رغم أنه محصّن بأحدث الوسائل التكنولوجية- بأن يكون بمنأى عن الاستهداف، بل هو فى مرمى النيران مهما حاول صنع أمنه وأمانه، سيظل أمناً زائفاً يمكن أن يُقهر بملعقة صدئة!.