وقف السيد «تورجوت أوزال» الرئيس التركى السابق أمام البرلمان التركى فى عام 1991م يعرض عليهم خرائط جديدة حينها، تتضمن ضم شمال العراق ومدينة الموصل إلى الدولة التركية، عندما توقع انهيار العراق وتقسيمه، وكان بذلك يعزف على الحلم العثمانى الذى يسكن عقل وقلب النخبة التركية الحاكمة، فخيالهم يصور لهم أن هذه المنطقة هى جزء أصيل من تركيا، وأنها قد تعرّضت لفصل تعسفى فرضه الإنجليز كتوابع لـ«سايكس بيكو» وفق معاهدة «مونترو 1923م»، هذا الحلم بالطبع يحرك خطوات «أردوغان» فى هذه المنطقة الملتهبة منذ وصلوه إلى الحكم هو وحزبه ومع بعض الخيالات الأعلى جموحاً يبدو الأكثر حيرة فى كل اللاعبين على هذا المربع.
فقد بقيت الأنظمة التركية منذ تأسيس الاتحاد الأوروبى 1992م تدق على أبواب الاتحاد مقدمة كل أنواع فروض الولاء والطاعة الممكنة، لكنها ومع كل دورة انعقاد وتصويت على طلب الانضمام كانت تتلقى صفعات الرفض المتوالية التى شكّلت ظاهرة وقتها، واحتاج الأمر بعد فترة إلى ترضية استراتيجية من نوع ما، خصوصاً أن تركيا دولة عضو بحلف الناتو، وقد مارس عليها الحلف ابتزازاً صريحاً فى إعطائه تسهيلات ثمينة وقت تقديم فروض الولاء للحاق بالقطار الأوروبى الموعود، تشكلت تلك الترضية لتركيا عقب وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، وتزامن ذلك مع رغبة أمريكية فى تقديم نموذج إسلامى بنكهة مختلفة قد يساعد فى حلحلة الجمود السياسى للمنطقة العربية، وبدأ الدفع الناعم لتركيا ناحية منطقتها القديمة لتسويق نموذجها الإسلامى لتحقيق بعض من نفوذ قد ينفع فى بعض منه دون أن يضر، هذا النموذج الذى تشكل عنوانه فى الطفرة الاقتصادية المدعومة مباشرة أمريكياً حمل بداخله تناقضاً عريضاً، فهو القالب الإسلامى «مثلاً» الذى يدير نشاطه السياحى بالصورة الإباحية لأى عاصمة علمانية أخرى، وهو أيضاً النموذج المتقدم فى العلاقات مع إسرائيل فى أدق الشئون التى تشمل العسكرية والاستخباراتية وتقنيات التسليح دون أن تخلع رداءها الإسلامى!!
فى أزمة الحرب على داعش وحلف مكافحة الإرهاب ضربت تركيا أيضاً بتناقض صارخ، فهى مدعوة للمشاركة كعضو فى «الناتو» وكرقم فاعل فى الإقليم، فى الوقت الذى تعانى من استغراقها لأذنيها فى وحل صناعة الكارثة الإرهابية للمنطقة برمتها، فقيادات «داعش» يتخذون من مدينة «الريحانية» التركية على الحدود مع سوريا ملاذاً آمناً وغرفة عمليات هادئة يديرون منها الحرب على نظام الأسد، ويستقبلون فيها النفط السورى المهرّب، ومن بعده العراقى لضخه بأقل من 15 دولاراً للبرميل فى السوق السوداء التركية لتجارة النفط، ومن المدينة نفسها يتم جمع أموال تلك العوائد ليتم شراء الذخيرة والسلاح التركى الذى يصل إلى المقاتلين مع مصروفات النقد السائل لتمويل العمليات على الأرض.
مفارقة أقرب إلى الساخرة، استقبل بها النظام الألمانى إعلان فوز «أردوغان» بالرئاسة لحسابات مباراة جانبية بينهما، عندما دفع جهازه الاستخباراتى لتسريب عنوان مكتب «داعش» فى «حى الفاتح» بإسطنبول أذاعه التليفزيون الألمانى فى تقرير إخبارى عن الدعم الإقليمى للإرهاب، الموقف التركى محمّل بالعديد من المشكلات ليس أقلها التواطؤ الصارخ مع الإرهاب، الذى يصعب الفكاك منه بسهولة ودون خسائر دامية، فالتعقيد الأكبر أمامها هو التسليح الكردى الذى تم على عجل من إسرائيل وألمانيا ولم تستطع تركيا إيقافه، فقد كان «داعش» على أبواب أربيل، هذا السلاح الجديد هو ما سيواجهه «أردوغان» فى الجزء الكردى التركى، والذى يراهن مع قياداته العسكرية على نجاح إقامة منطقة عازلة إتقاءً لشر تفجر الأوضاع، قبل أن يتمكن من اختراع حلول واقعية لخطر 5000 مقاتل داعشى يحترفون التنقل من الأرض التركية وإليها، وأداروا التجارة السوداء طوال سنوات مع أباطرة الحدود الأتراك.