تتمثل النصوص البشرية فى الموروث الفقهى والتاريخى. الموروث الفقهى يحمل اجتهادات أئمة الإسلام الكبار فى مجال التأصيل والتنظير والتفسير لأحكام الدين، كعبادات ومعاملات ومواريث وأحوال شخصية وغيرها، أما الموروث التاريخى، فيشمل كتب السيرة وكتب التاريخ التى تحكى الأحداث التى تفاعلت فى حياة الأجيال الأولى من المسلمين، وكذا فى الأجيال التى أعقبتها، مثل كتب «البداية والنهاية» و«أسد الغابة» و«الكامل فى التاريخ» وغيرها كثير.
لو أنك راجعت الواقع المعيش على مسطرة الموروث الفقهى، فسوف تجد أن كل ما يتعلق بفقه العبادات معمول به، فى الصلاة والصيام والزكاة والحج، فأحكامه باقية وعابرة للعصور، ولا يملك أحد أن يغيرها، وهناك فقه المعاملات كالرهن والربا والبيع والمضاربة وغيرها. والأحكام الموروثة فى هذا الاتجاه معمول ببعضها ومتروك بعضها الآخر، بحكم التحولات الزمنية، لكن الترك لا يعنى الإلغاء، فهى قابلة للتطبيق فى السياقات التى تتيح لها ذلك، وبإمكان المسلم أن يُلزم نفسه بها أو لا يُلزم تبعاً لما يراه، فهناك من يتحفظ على المضاربة و«يستحرمها»، ولن يوجد من يجبره على إتيانها.
تعال بعد ذلك إلى فقه الأحوال الشخصية والمواريث، وستجد أنها مقنَّنة ومطبَّقة، بل والعجيب أن تجد أن الدولة المصرية عبر تاريخها شديدة الالتزام بتطبيقها، فى حين يفارقها بعض الأفراد، مثلما يحدث فى مسألة توريث المرأة فى البيئات الريفية كما حكيت لك، ومحاولات التطوير فى بعض جوانب هذا الباب من أبواب الفقه، مثل توثيق الطلاق الشفوى حتى يتم الاعتراف به، أحياناً ما يرفضها البعض بصورة تتناقض مع الذات التى قبلت من قبل بمسألة توثيق الزواج، وعدم الاعتراف بالزواج الشفاهى التى ارتبطت بعصور قديمة لم تكن تعرف التوثيق.
لا توجد غضاضة فى طرح رؤى تطويرية لبعض الجوانب المتعلقة بفقه الأحوال الشخصية، ما دامت تتلمس وتتمثل روح التشريع (التشريع أصل الفقه). على سبيل المثال، لو أنك تأملت بند تعدد الزوجات فى فقه الأحوال الشخصية، فستجد أن الإسلام وهو يرخص للرجل فى الزواج بأكثر من واحدة حتى أربع نساء كان يحاصر ظاهرة عانى منها المجتمع العربى بل والإنسانى عموماً قبل الإسلام، تتعلق بالزواج بلا حساب واقتناء الإماء والجوارى بلا عدد. لقد أراد الإسلام أن يحاصر الظاهرة من خلال التحديد والتقيد بعدد كخطوة أولى لتطوير الفكر الإنسانى للرجل.
روح التشريع هنا كانت فى «التحديد» وليس دعم فكرة «التعديد»، والدليل على ذلك أن الواقع طوَّر نفسه، وباتت ظاهرة زواج الرجل بأكثر من واحدة نادرة كل الندرة، وأصبحت القاعدة السائدة هى الزواج بواحدة.
ويمنحك هذا المثال مؤشراً على أمرين: الأول أن الواقع قادر على تجديد الخطاب أو الفكر الدينى أكثر من أفكار المنظِّرين، والثانى أن المجتمع يتعامل مع الفقه طبقاً لاحتياجاته، ولا يعنى ذلك بحال أى نوع من التقليل من أهميته، أو إلغاءه، بل يعنى نظرة واقعية إلى الحكم الفقهى، فقد يستجد ما يستوجب العودة إليه.