اذا تأملت فى العامية الأمريكية، ستجد كثيراً من التعبيرات التى لا يمكن ترجمتها حرفياً إلى أى لغة أخرى، لأنه ببساطة الترجمة لن تعطى المعنى المقصود منها.. منها ذلك التعبير الذى انتشر فى العقدين الأخيرين «To be a postal» أو بترجمته الحرفية «أن تكون كساعى البريد»، المعنى الحرفى لا يعنى شيئاً بالتحديد، ولكن المعنى المقصود هو ذلك الموظف الأمريكى الذى كان يعمل فى البريد، والمعروف بهدوئه الشديد وخنوعه الزائد لرؤسائه، والذى أصيب بنوبة من الهياج العصبى، فأطلق الرصاص على زملائه فى العمل بالكامل، ثم جلس هادئاً فى قاعة المحكمة، لتأمر بإحالته إلى إخصائى للأمراض النفسية، ليفلت بفعلته بمنتهى البساطة.
والواقع أن التعبير حاول أن يصف الحالة التى يخرج فيها الإنسان عن شعوره، فيفقد السيطرة على أعصابه بالكامل، مما يؤدى إلى ارتكابه حماقات كبيرة، ونظراً لأنه غير مسيطر على نفسه فى تلك الفترة، فإنه يعتبر غير مسئول عما فعل، باختصار فإنها تصف تلك الحالة التى تسبق الانفجار النووى، التى يسمونها فى علم الفيزياء «الكتلة الحرجة»، التى يصبح توقع انفجارها فى أى وقت، ويصبح انفجارها فى حد ذاته غير محسوب.
لا أدرى لماذا تذكرت هذا التعبير تحديداً وأنا أنتظر يومياً تلك اللحظة التى سيتم فيها حرمانى من الكهرباء لمدة لا يعلمها إلا الله، والفنى الذى يقوم بهذه العملية بالطبع!
لا شك أن انقطاع التيار الكهربائى بهذه الصورة الكثيفة التى لم تحدث من قبل فى تاريخ هذه الدولة منذ أن دخل إليها اختراع «إديسون» هو السلبية الأكثر تأثيراً فى أداء حكومة المهندس «محلب» حتى الآن، ولكن إن أردنا الدقة، فيمكن أن نضيف إليها تصريحات السادة المسئولين فى هذا المرفق تحديداً.
لم يحرز سيادة الوزير المسئول أى تقدم فى علاج هذه المشكلة الحيوية حتى الآن، ولم يرَ منه المواطن إلا ابتسامة لا تعنى شيئاً، بل إنه حتى لم يحاول تقنين هذا التقصير المستمر بإعلان الخطة التى تتبعها الوزارة لتخفيف الأحمال يومياً فى كل مدينة، ليستطيع المواطن أن يكيف جدوله بما يتوافق مع مواعيد الانقطاع، ولكن قطع الكهرباء بهذه الطريقة العشوائية يجعل الأمر هزلياً غير مقبول، ويجعل الكتلة الحرجة أقرب للانفجار من أى وقت مضى، وبصورة أعنف من المتوقع له بكثير!
أعلم أن المشكلة كبيرة، وأن الحل ليس فى يد سيادة الوزير المسئول، كما أعلم أيضاً أن انقطاع التيار بهذه الصورة فى هذه الأيام قد يعنى أننا -غالباً- سنظل على هذه الحالة حتى فى فصل الشتاء، فلم يعد الأمر مقتصراً على شهور الصيف فقط، ولكننى أعلم أيضاً أن تولى مسئولية وزارة متهمة بالتقصير فى أداء أنشطتها الخدمية، حتى ولو كان التقصير خارجاً عن إرادتها، أمر لا يدعو للابتسام مطلقاً!
لا تحاول الوزارة الاعتذار عن التقصير المخل فى أدائها، بل ولا يفكر أحد من مسئوليها أن يظهر حتى تعاطفه مع المواطنين، أو أن ينسحب من المشهد احتراماً لنفسه!
يحتاج السيد الوزير إلى أن يقدم حلولاً من خارج الصندوق، كما يحتاج الشعب منه إلى أن يتم الإعلان عن خطة الترشيد التى تتبعها الوزارة فى كل المناطق، والتى أشك أنها موجودة من الأساس، كما يحتاج، وعلى وجه السرعة، أن يتوقف عن الابتسام فى لقاءاته التليفزيونية، حتى يجد حلاً.. أو يرحل!