المؤكد أن أحد الأصدقاء -وهو كاتب كبير- كان على حق، عندما تصور أن مقالى السابق عن «جرائم كشف الستر»، قد يفهم منه البعض أنه ينطوى على دفاع غير مباشر عن أستاذ جراحة العظام بجامعة عين شمس، المحبوس الآن على ذمة التحقيق فى الفيديو الذى ظهر فيه وهو «يتنمر» بالممرض ويهينه ويسب أهل منطقته ويأمره بالسجود للكلب.
والحقيقة أن ملاحظة صديقى الكاتب كانت فى خاطرى وكنت منتبهاً إليها وأنا أستعرض واحدة من أبدع القصص القصيرة للدكتور يوسف إدريس، وهى قصة «الشيخ شيخة» الذى عاش زمناً طويلاً بين أهل قرية مصرية على اعتبار أنه أصم وأبكم ولا يعقل أى شىء مما يراه، وعندما استيقظت القرية على شائعة تقول إنه يرى ويسمع ويعقل ويتكلم، جُنَّ جنون كل أهالى القرية، وأصبحت حياتهم السرية على وشك التعرى والفضح، ولم يهدأ للأهالى بال إلا بعد أن تم العثور على «الشيخ شيخة» غارقاً فى دمائه ورأسه محطم بحجر.
ورغم أن فيديو أستاذ جراحة العظام الذى انتشر كالنار فى الهشيم وانقلبت له دنيا التواصل الاجتماعى ومواقع الصحف والفضائيات، كان هو المثير الأساسى الذى دفعنى إلى كتابة ما كتبت..
فلم يخطر ببالى أبداً أن أدافع عن هذا الطبيب الكبير الذى تعرض للفضح والإدانة المجتمعية قبل أن يتعرض للتحقيق والحبس، ولم يخطر ببالى أبداً أن أدافع -مثلاً- عن الفضح الذى تعرَّض له مخرج سينمائى ودفعه إلى الهرب من مصر، وعندما عاد استقبلته النخبة المثقفة -للأسف- كما لو كان زعيماً سياسياً عائداً من منفاه الإجبارى! والحاصل أننى لا يمكن أن أتورط فى الدفاع عن هذا أو ذاك، ويستحيل أن أتعاطف مع هذا التجبر الإنسانى المقزز فى تحطيم كرامة إنسان، كما يستحيل أن أتسامح مع شخص لعب دوراً شديد الانحطاط فى تدمير صناعة فى منتهى الأهمية -هى صناعة السينما- بتحويلها هو وآخرون على شاكلته، إلى مستنقع للعهر والتفاهة والسطحية والادعاء والتلذذ السادى بالشذوذ الإنسانى والفنى، وإلى مناخ طارد لمواهب حقيقية اختار أصحابها العزلة والبطالة لأن ضمائرهم لم تطاوعهم على الوجود فى هذا المستنقع!.
ومع ذلك كله، لم يحدث أبداً أن شعرت بالارتياح -ولو على سبيل الشماتة- كلما ضجت الوسائط الإلكترونية بفضيحة جديدة، لأن أى فضيحة لا يمكنها أن تقتصر على تدمير الشخص المقصود بالفضح، ولكنها دائماً وأبداً تطال أُناساً آخرين لا شأن لهم بالموضوع، وعندما أفكر فى الآباء والأمهات الذين روّعهم فضح بناتهم ودمر كرامتهم وأذلهم بين أقاربهم ومعارفهم، أو أفكر فى الأبناء الذين رأوا آباءهم أو أمهاتهم فى فضائح من هذا النوع، أشعر برعب حقيقى من النتائج الكارثية لهذه التسريبات..
وأوقن أن كثيراً من القيم الراسخة فى مجتمعنا تتصدع شيئاً فشيئاً، ونحن نتسلى ونقتل الوقت فى رؤية فضائح الآخرين، وأن يوماً ما سيأتى لنجد أنفسنا دون أى سقف قيمى نعيش تحته، وسوف نتعايش مع هذا التفسخ الأخلاقى دون أن نشمئز منه، مثلما يتعايش البعض مع قمامة الشوارع ووساخة النفوس وتفشى الرشوة والابتزاز والتسول والقسوة المفرطة، وكأنها من لوازم الحياة العادية التى لا غنى عنها.
إن تحضُّر الإنسان -أى إنسان- لا يقاس بمقدار ما يملكه من وسائل التحضر المادية، فكم من أثرياء فى منتهى الفقر لأنهم لا يملكون غير المال، وكم من فقراء فى منتهى الغنى بفضائل وقيم لم ينل منها شُح المال.
ولكن تحضر الإنسان يقاس دائماً بما ينطوى عليه وجدانه من مشاعر طيبة وإيجابية تجاه كل مكونات الحياة، ويُقاس أيضاً بمدى حساسيته تجاه كل مآسى الحياة، وبمدى تعاطفه مع الموجوعين والمكسورين، واحتقاره للأجلاف والمدَّعين أياً كانت نجوميتهم أو نفوذهم.
إن صناعة الإنسان المتحضر هى أصعب الصناعات قاطبة، ورغم ذلك فليس هناك أسهل من تدمير قشرة التحضر وتعرية الوحش الإنسانى بمثل هذه الفضائح التى كادت أن تصبح من لوازم الحياة العادية..
وعندما أفكر فى الخطة الجهنمية التى ابتدعتها الإمبراطورية الأمريكية لتحييد الضمير الإنسانى أو إماتته، بالتوسع فى نشر آثار الحروب والمذابح والانتهاكات الآدمية التى أصبحت لا تثير فينا غير مشاعر فاترة، باعتبارها من لوازم الحياة، أشعر على الفور أننا نقف على أعتاب مرحلة جديدة من التفسخ الإنسانى، تتحول فيها الفضائح إلى سلوك معتاد، والشذوذ إلى حرية شخصية، والسادية إلى بطولة نباهى بها الأمم ونعلقها على صدورنا باعتبارها إحدى علامات النجومية.
هل سيفهم البعض هنا أننى أدعو لستر الجرائم بدلاً من فضحها وفضح أصحابها حتى لا تشيع الفاحشة بيننا؟!. الحقيقة أننى أدين الفضح، لأنه أبشع وأحط وسيلة لكشف الجريمة، وضرره أضعاف فوائده إن كانت له أية فوائد، فكم من مفضوح انتهت قضيته أمام المحاكم بالبراءة، وما زالت الانفجارات الانشطارية للفضائح تدمر وتخرب حياة بشر لا ذنب لهم فى هذه الفضائح المسربة، والذى أعرفه أن كل المجتمعات المتحضرة والمنتجة لديها قوانين وضوابط وآليات محترمة لوأد الجرائم فى مهدها، ولكبح سادية وقسوة المديرين فى أماكن العمل، ولخلق مناخ إبداعى محترم يتيح أوسع الفرص للكفاءات والمواهب، ويمنع «الشطار والفوريجية» والمدعين والشاذين من السيطرة على صناعة استراتيجية مثل صناعة السينما!.
وباختصار، الفضح فى النهاية مجرد آلة انتقام، أو هى عادم ماكينة معطوبة تُدار بعشوائية، ومهما طال الفضح أناساً ساديين ومنحرفين، فسوف يظل صراعاً فى مستنقع لن ينجو من قذارته أحد.. والأنصع والأنقى دائماً أن تُدار ماكينة المجتمع بطاقة الضبط الإدارى وعدالة إتاحة الفرص وإشاعة السلوكيات المتحضرة، حتى لا يجرؤ كائنٌ من كان على تحطيم كرامة إنسان لمجرد أنه تحت سلطته.. وحتى لا يجد الساديون مناخاً يتيح لهم استغلال فتيات تافهات مقابل إسناد أدوار لهن فى «أعمال فنية» أوشكت أن تكون أسواقاً للنخاسة، وتسببت فى بطالة إجبارية لأخريات موهوبات اخترن العزلة والحسرة بديلاً عن ابتذال أنفسهن!.