شرع الله سبحانه الدين قيماً.. لا ضيقاً. القيم فى اللغة هو الأصوب أو الأكثر إلماماً بما يحيط. والدين القيم مرن، والمرونة إعجاز فى النص، وإيجاز فى التشريع.
مرونة النص أوجبت الاجتهاد. والاجتهاد فى الاصطلاح هو استخراج أحكام شرعية من مصادرها الأصلية لسبب يقتضى.
ظهر الاجتهاد بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، لما صادف الصحابة مشكلات لم يواجهوها فى عهد النبى، صلى الله عليه وسلم، ومسائل فى البلاد المفتوحة لم تنزل فيها نصوص ولا آيات.
كانت الدولة فى عهد رسول الله تدار بالوحى، وفى الحوادث الكبرى والملمات كان ينزل الوحى بالحلول وبطريقة التصرف فى وقائع معينة.
بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، انقطع الوحى واستجدت مشكلات لم يكن لها سوابق فى عهد رسول الله، لذلك نشأ علم الفقه.
والفقه الإسلامى أنواع؛ منه ما يتوسع فى المصلحة، ومنه ما يتمسك بظاهر النص، فإن لم يجد فيه يقيس على ما يشبهه. ومن الفقهاء من يميل إلى التضييق، ومنهم من يماهى بين الكراهة والتحريم.
كان تابعو التابعين لما يسألون عن تفسير آية من القرآن الكريم يقولون: اتقِ الله وعليك بالسداد.. فقد ذهب من يعرفون القرآن ويعرفون فيمَ نزل.
فى عصور ما بعد الصحابة اضطرب التأويل، ودخلت السياسة فى الدين، فقلَّ الاجتهاد، وأخذ بعضهم النص بظاهره فزادت المشكلات، وكثرت الفرق، وكانت الفتن.
يروى أن مجموعة من الخوارج قابلوا أحد الصحابة فسألوه: من أولى بالخلافة معاوية أم على؟ فاختار علياً.. فقتلوه امتثالاً لنص الآية الكريمة: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ».
ويروى أنهم قابلوا واصل بن عطاء، فخيروه بين على ومعاوية، فقال: إنما أنا مشرك، وطلب استجارتهم.. فأجاروه، امتثالاً لقوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ».
أخذ النص على ظاهره أزمة.. ومنع موارد الاجتهاد عن الدين كارثة.
لكن الذى حدث أن بعض مدارس الفقه قيدت الدليل العقلى لصالح الدليل النقلى. النقل هو المتواتر إلينا من اجتهادات الأولين فى تفسير النص واستخراج الأحكام الشرعية منه طبقاً لزمانهم، وطبقاً لفهمهم فى عصورهم.
لكن كثيراً من اجتهادات الأوائل لا تعالج مشكلات المجتمعات الحديثة. فى عصورنا بعد مئات السنين من عصور الصحابة والتابعين، ظهرت مسائل مستجدة فى حاجة إلى أحكام شرعية جديدة. فى عصورنا ظهر من المسائل ما لم يعرفه الأوائل، وكثير من مشكلاتنا استوجبت اجتهادات جديدة غير ما استقر عليه الأوائل.. توثيق الطلاق مثال.
رغم احتياجات المجتمعات الإسلامية لمزيد من التغيير فى الأحكام الشرعية باجتهادات واجبة ولازمة، فإن علماء السنة والجماعة ما زالوا متمسكين بإغلاق باب الاجتهاد منذ القرن الرابع الهجرى.. إغلاق باب الاجتهاد أزمة ومشكلة وساء سبيلاً.
سد باب الاجتهاد يعنى تحويل علم الفقه من مولِّد للأحكام حسب الظروف والمستجدات، إلى مقلِّد للأحكام بمحاولات مستميتة لتطويع اجتهادات قديمة لمستجدات حديثة، وتوقيف ظروف جديدة على أحكام قديمة.
من قال إن الإسلام مقصور على عصور الأوائل ومستوقف على عصور التابعين؟
سأل أحدهم أبا بكر، رضى الله عنه: أنت خليفة رسول الله؟ انزعج أبوبكر، رضى الله عنه، وقال: بل أنا الخلف من بعده.
الفرق بين الخلف والخليفة أن الخلف تالٍ فى الزمن دون ما للأول من مكانة وحدود تشريعية، بينما الخليفة هو التالى فى الزمن والموازى فى المكانة.
قصد أبوبكر بتأكيده أنه الخلف أنه مجرد بشر بعد رسول الله، يؤمن كما يرى، ويجتهد فى تفسير النص اجتهاداً بشرياً ليس منزلاً ولا مقدساً.
بعد أبى بكر، رضى الله عنه، جاء الخلفاء من بعده فاجتهدوا قدر استطاعتهم، وقدر فهمهم فيما لم يجدوا عنه إجابات فى النص، وأعملوا رأيهم فى ما لم يسبق للنبى، صلى الله عليه وسلم، أن قال فيه رأيه.
مثلاً، ورَّث أبوبكر الجدة فى حفيدها بلا نص، وأوقف عمر بن الخطاب نص المؤلَّفة رغم صراحة وروده فى كتاب الله.
ذلك هو الدين القيم، لكن التمسك بمسالك الأولين وتوقيف الإسلام على زمن الصحابة والتابعين يضيق الدين.
قال تعالى: «الدين القيم».. لم يقل الدين الضيق!