كنت فى سوريا فى العام 2006، لتدريب عدد من الصحفيين، الذين يعملون فى موقع إخبارى صاعد آنذاك، على المعايير الدولية للجودة فى العمل الصحفى الإخبارى، لمصلحة صندوق الإنماء، التابع لهيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى).
وقد كانت طبيعة التدريب عملية، بحيث تمزج بين تفاصيل العمل اليومى من جانب، وتراجعها وتقيمها وتخضعها لمعايير الجودة المهنية والأخلاقية من جانب آخر، بغرض تحسينها لمقابلة تلك المعايير والوفاء بها.
وفى اليوم الثانى من التدريب، جاءنى أحد المراسلين فى المنطقة الشرقية بالبلاد بخبر عن انتحار فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً، قائلاً إن سبب انتحارها هو «حزنها لامتناع والدها عن شراء ملابس جديدة لها تحضر بها عرساً عائلياً». وعند مراجعة الخبر، لاحظت أن المراسل اعتمد فى خبره هذا على مصدر واحد فقط هو والد الفتاة المنتحرة، حيث قدم إفادته إلى الجمهور باعتبارها الحقيقة، وأنها السبب الوحيد والحقيقى لواقعة الانتحار.
أفهمت المراسل، الذى صار صحفياً مشهوداً له بالتميز والكفاءة لاحقاً، أن عليه أن يقدم إفادة الوالد باعتبارها رأيه أو تقييمه، وليس بوصفها الحقيقة المجردة، وعليه أيضاً أن يسأل مصادر أخرى ليست على صلة بالمصدر الأساسى، المتمثل فى الأب «المكلوم»، وأن ذلك كله يجب أن يجرى بطريقة تحترم مشاعر العائلة وكرامتها وذكرى الراحلة المنتحرة فى آن واحد.
فالصحافة الجيدة لا يمكن أن تكون مجالاً لإيذاء الأبرياء والضحايا والمكلومين، أو انتهاك مشاعرهم، ولا يمكن أيضاً أن تتخلى عن واجبها فى نقل الوقائع التى تقع ضمن اهتمامات الجمهور بأقصى درجة ممكنة من الأمانة والدقة.
قام الصحفى بواجبه، وراح يبحث فى واقعة الانتحار، وعبر تجميع عدد من الإفادات من أكثر من طرف، واستعراض مجريات التحقيق، وإفادة الطب الشرعى، خلص إلى أن الواقعة كانت «حادثة شرف» أو قتلاً بغرض «الدفاع عن الشرف»، وهو الأمر الذى غيّر القصة تغييراً جوهرياً.
يُعد هذا أحد الأدوار التى تلعبها الصحافة فى المجتمع، وهو دور يجب أن يتم من خلال تفعيل معيار الإنصاف فى العمل الإعلامى، والإنصاف ببساطة هو «اتخاذ الوسيلة والإجراءات اللازمة لحماية الجمهور والمشاركين فى المادة الإعلامية (المصادر على سبيل المثال) من أى تداعيات سلبية غير موضوعية، تترتب على إعداد المادة ونشرها أو بثها، على أن يكون ذلك فى إطار لا يمس نزاهة المادة ودقتها، ولا يحرم الجمهور من حقه فى الاطلاع على التفصيلات اللازمة»، بما يضمن حقوق الأطراف فى ظل القوانين السارية.
تذكرت هذه الحادثة وتفاصيلها الثرية، حين طلب منى عدد من الزملاء الصحفيين التعليق على حادثة انتحار فتاة فى أحد «مولات» القاهرة، وهو حادث صادم كان محل اهتمام الجمهور على الوسائط المختلفة خلال الأسبوع الماضى.
وكان بعض الزملاء يتوقع منى أن أطلب إلى وسائل الإعلام تفادى عرض مثل تلك القضايا، أو الامتناع عن التنقيب وراءها، أو حجب ما يتوافر منها من صور وفيديوهات؛ مراعاة لكرامة الضحية وسمعة عائلتها ومشاعر الجمهور.
والواقع أنه لا يمكن منع وسائل الإعلام من تغطية مثل تلك الحوادث، خصوصاً أن وسائط «التواصل الاجتماعى» توفر تغطية مكثفة وتفاعلية لها، وهى فى تغطيتها تلك لا تخضع لأى معايير أو قيم سوى التى يلزم المستخدم نفسه بها طوعاً.
وبسبب ذلك، فإن إخضاع مثل تلك الحوادث للتغطية المهنية عبر وسائل الإعلام «التقليدية» يعد واجباً، على أن تجرى تلك التغطية وفق قواعد مهنية وأخلاقية تحجب اسم الضحية، واسم عائلتها وأفرادها فى حال كانت تلك رغبتهم، وأن تتفادى نشر أى مشاهد يمكن أن تشكل أذى لأطراف القضية أو الجمهور العادى.
فمن واجب وسائل الإعلام أن تعرض على الجمهور تفاصيل الأحداث المهمة التى تقع فى نطاق اهتمامه؛ لأن حجب مثل تلك التفاصيل يمكن أن يجرد الجمهور من القدرة على تحليلها على النحو السليم، ومن ثم تكوين الرأى المناسب حيالها، واتخاذ القرارات الملائمة بخصوصها.
كما أنه من الضرورى أن نحفظ حق وسيلة الإعلام فى صيانة قدرتها التنافسية، فى وقت تقوم فيه وسائط أخرى عديدة بنشر جميع الصور والأفلام دون أى تقيُّد بأصول مهنية أو أخلاقية.
لكن ذلك كله يجب ألا ينال من حق الجمهور فى أن تتوافر له الحماية من مشاهدة المناظر المؤذية والجارحة للمشاعر، خصوصاً أن بين هذا الجمهور بالتأكيد من هم دون سن الرشد، وبينهم أيضاً من يعانى من أمراض يمكن أن تفاقم المشاهد الصادمة من أثرها.
ويمتد ذلك لصيانة حق أطر المساءلة المختلفة فى المجتمع فى معرفة ما جرى للضحايا، بما يمكّن من مساءلة الأطراف المعنية عن أدائها واحتمالات تقصيرها فى إنقاذهم.
لا أربط بأى صورة من الصور بين حادثة الانتحار التى حدثت فى شرق سوريا قبل 15 عاماً وبين حادثة الانتحار التى جرت فى «سيتى ستارز» قبل أيام، لكن ثمة ما يجب أن نفعله كصحفيين إزاء تلك الحوادث كلها، بحيث تحفظ تغطياتنا حقوق الرأى العام وأطراف القضية والوسيلة الإعلامية ومرفق العدالة، من دون أن نجور على أى طرف.
يُعد ذلك عملاً صعباً فى ظل التدافع من أجل السبق، لكنه قيمة تستحق أن نعمل من أجلها.