نفحاته المميزة لا تخلف موعدها كل عام.. يطل شهر أكتوبر حاملاً مشاعر الكبرياء والفخر كى تبقى الحقيقة مشرقة مثل أشعة الشمس فى وجه كل من يحاول الالتفاف حولها أو المساس بها. مشاعر نبيلة تحمل استرداد الكرامة العربية بفضل أغلى دماء وتضحيات بذلها الجيش المصرى الوطنى وهو يقدم رسالة لكل عربى «ارفع رأسك فقد كسرنا حواجز الأوهام التى حاولوا تسويقها».. أثبتت إرادة الرجال للعالم أن المزاعم الزائفة ليست سوى بيوت من ورق تهاوت أمام صدى هتاف «الله أكبر» وهو يغمر المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج.
من أعظم المعانى التى هلّت علينا يوم 6 أكتوبر 1973 -وهى لا تُعد ولا تُحصى- أنها نقلت ملاحم البطولات إلى عالم الواقع بعدما ارتبط الكثير منها بمنطقة الخيال.. إذ فاقت بطولاته كل ما تحويه الملاحم من صيغ التهويل.
على مدى 48 عاماً تناولت تحليلات لا حصر لها من أهم القادة العسكريين والأجهزة الاستخبارية عبقرية هذه الحرب التى لا تزال تُلقى ظلالها على العالم، بل إن مراكز الأبحاث العسكرية -على الأخص الإسرائيلية- ما زالت تتناول بالدراسة نصر أكتوبر.
بين كل صفات التمجيد التى تليق ببطولات أكتوبر، يجدر التوقف أمام الجانب الإنسانى.. أبرزها استعادة المواطن العربى مشاعر العزة والكرامة بعد الانتصار العظيم.
قبل أكتوبر، ذاقت نسبة كبيرة من المواطنين مرارة التردد من ذكر هويتهم العربية تحديداً فى أوروبا تجنباً للاصطدام بصفاقة ردود الفعل الصهيونية بعدما ظلوا 6 سنوات يعايرون مصر والدول العربية بمرارة النكسة.. ثم أقبلت بشرى بطولات الجيش المصرى لتمنحنا شرف الهوية العربية.
نصر أكتوبر لم يتوقف عند تحطيم أجواء النشوة والثقة المطلقة التى سادت إسرائيل فى إطار أكذوبة «الجيش الذى لا يُقهر»، أو تعرية الفشل الاستخبارى الإسرائيلى.. فقد شكلت هذه الضربة الموجعة نقطة تحول صدمت الداخل الإسرائيلى حتى الآن، إذ ما زالت المراكز الإسرائيلية تتخذها مرجعاً عند وضع أبحاثها عن المستقبل. الصدمة الوطنية للرأى العام داخل إسرائيل لم تختف تراكماتها عبر العقود الماضية، بل إن مشاعر تجدد الخوف والرعب هى العامل المشترك فى اعترافات كبار مسئوليها السابقين والحاليين مع حلول كل ذكرى لنصر 6 أكتوبر.. اليوم الذى شهِد مع تهاوى خط بارليف سقوط المشروع الأهم فى تاريخ إسرائيل.. مشروع الحلم الصهيونى الكبير.
نصر أكتوبر هو الاختبار الحقيقى لقوة مصر العسكرية فى حرب عادلة بين جيشين، أحدهما خدعه تفوّق زائف عام 1967 لا يمكن تصنيفه كحرب وفق كل المراجع العسكرية العالمية، فى مقابل تجلى قدرة الجيش المصرى بعد اكتمال مقومات استعداده العسكرى مكللاً بأقصى درجات العزيمة وعقيدة التضحية، فالنصر أو الشهادة هما أدوات فرض عدالة القضية.
سياسياً، من المؤكد أن حقيقة الإبهار الذى اتسمت به ملاحم أداء الجيش المصرى منذ ذلك الوقت لا يمكن قراءتها بمعزل عن إشكالية مهمة تمثلت فى محاولات بائسة لاختراق الجيوش العربية -على رأسها جيش مصر- إذ ليس من باب المصادفة أن يكون الجيش المصرى هو الكلمة المحورية فى الأحداث السياسية التى توالت على مصر بين عامى 2011 و2013.. والفشل الذريع الذى واجهته كل المحاولات الخبيثة التى دارت فى فلك الفصل بين الجيش والشعب.
نصر أكتوبر منح المنطقة لحظات نادرة للتضامن العربى، وسط كل التحديات الحالية تبدو المنطقة فى أشد الحاجة إلى استلهام ذات الحالة التى لخصتها كلمات المفكر والعالم جمال حمدان «لأول مرة خرج العرب بعد 6 أكتوبر 1973 وهم صناع التاريخ بعد أن ظلوا طويلاً لعبة التاريخ.. وتحولت المنطقة العربية من منخفض سياسى إلى منطقة ضغط سياسى مؤثر وفعال». بعد كل العقود تفرض هذه الحالة نفسها على المشهد العربى كأكثر الحلول حكمة وواقعية لتجاوز الأزمات التى عصفت ببعض الدول العربية نتيجة التدخلات الخارجية والإقليمية.