من منا لم يشاهد رائعة المخرج فطين عبدالوهاب «أرض النفاق»، الفيلم الذى عُرض عام ١٩٦٨ مقتبساً عن رواية أرض النفاق للكاتب يوسف السباعى، وجسَّد شخصياته الفنان فؤاد المهندس والرائعتان شويكار وسميحة أيوب، وكانت نفس القصة قد قدمت من قبل فى فيلم «أخلاق للبيع» عام ١٩٥٠ بطولة محمود ذو الفقار وفاتن حمامة وإخراج محمود ذو الفقار.
وقبل هذه الرواية وبعدها وحتى الآن أرى هذه الرواية تتجسد فى كثير من الأماكن والمؤسسات بنفس التفاصيل الدرامية التى حوَّلت مع الوقت النفاق من شىء معيب إلى أسلوب حياة وسُلَّم سهل للصعود للكثيرين..
نشأت فى جيل تعلَّم أن أبجديات النجاح والصعود هى العلم والعمل واكتساب الخبرة، فى وقت سعى فيه البعض إلى الفهلوة والنفاق واكتساب الرضا، مؤمنين بأن هذا الطريق هو الأضمن للوصول حتى لو تحوَّلت لمجرد ظل يسير تحت الأقدام..
والحقيقة أن أديبنا الكبير يوسف السباعى لو أمد الله فى عمره وكان موجوداً بيننا لاكتشف أن خياله الروائى لم يكن يتصور أن ما كتبه، مبالغاً وساخراً فى موضوع النفاق، لا يتجاوز مرحلة (كى جى) نفاق هذا العصر، الذى أوصلنا لدرجة أن الغريب هو من يتمسك بمبادئه وثباته ومواجهة الخطأ والردىء..
وينطوى النفاق السياسى على مبالغات لغوية وذهنية فاضحة، يكون لها وقع صاخب على الآذان، رغم أن الجذر اللغوى لكلمة «نفاق» أقل بكثير من أن يمنح هذا الضجيج، نظراً لخسة المنافق ونزوعه إلى الهروب والتزلف والانزلاق والمراوغة، بما يجعل من الطبيعى ألا يمتلك صوتاً عالياً، وصل إلى حد أن يطلق عليه البعض اسم «التطبيل». فالكلمة مستمدة من النفق أو الجحر الذى تحفره بعض الحيوانات، وأبرزها الأرانب، وتصنع له فتحتين، فإن هوجمت من إحداهما تهرب من الأخرى.
فالمنافق له وجهان، ظاهر وباطن، ويُسخِّر هذه الازدواجية فى عالم السياسة للإيقاع بمن يستهدفه عبر الغش والتدليس، فإن كان هدفه صاحب منصب أو سلطة أراد من نفاقه أن يحصد ذهبه، ويتقى سيفه، غير عابئ بالمصلحة العامة، أو حتى متحيز على المستوى العميق والطبيعى، لمصلحة من ينافقه والذى يتساقط كلام المنافقين على رأسه فيقتله فى بطء وهو لا يدرى..
وحضور المبالغة اللغوية فى النفاق، التى تحوى نوعاً من المفارقة المذهلة، واضح فى كثير من الأقوال التى تصفه. فالأديبة مى زيادة تقول: «من خساسة النفاق أنه يتكلم بلهجة تحاذى الصدق ويتلون بلون الواقع المحسوس». وتتكرر هذه السمة فى أقوال من قبيل: «إن شر النفاق ما داخلته أسباب الفضيلة، وشر المنافقين قوم لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق، فصاروا فضلاء بشىء جعلوه يشبه الحق»، و«المنافق هو من يمتاز بحلو وعذب الكلام ليقنعك بأنه صادق»، و«المنافق الحقيقى هو الذى لا يدرك خداعه لأنه يكذب بصدق». وتزيد هذه المفارقة فى ظل الاستبداد، وهو ما يعبر عنه عبدالرحمن الكواكبى بقوله: «الاستبداد يقلب الحقائق فى الأذهان.. فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر وتارك حقه مطيع، والمشتكى المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع الناس فى تسميته النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتّواً، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كما جاروه على اعتبار النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة».
ختاماً.. أردت أن أنبه وأحذر من آفة هذا العصر ونحن على مشارف جمهورية جديدة، أراها يجب أن تبنى بأصحاب الرأى والرؤية وليس بالتابعين الخانعين الأفاقين..
ذلك هو حجر الأساس الأهم فى الجمهورية الجديدة وإلا كانت الفاتورة باهظة..