قراءة نسبة المشاركة فى الانتخابات العراقية التى بلغت 41% وفق إعلان مفوضية الانتخابات لا يمكن أن تتم بمعزل عن عدة حقائق من واقع المشهد السياسى. استعادة ثقة هذه النسبة من الناخبين هى إنجاز كبير تم خلال عام فقط هو عمر حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى. هى نقطة بداية تُبشِر بمزيد من الخطوات الإيجابية خصوصاً أن التغييرات التى أسفرت عنها ستلقى بظلالها على أداء البرلمان القادم. هذه النتائج تأتى لأول مرة معبّرة بشفافية عن حجم إقبال الناخب العراقى بعدما حظيت بإشراف دقيق من منظمات دولية وعربية، خلافاً للمبالغات التى اتسمت بها الأرقام السابقة اعتماداً على توجيه كتل وأحزاب فرضت وجودها على المشهد السياسى بقوة الترهيب والسلاح.
كل المؤشرات التى رجّحت اختلاف الانتخابات العراقية عن سابقاتها أثبتت صحة توقعاتها. لكن نجاح الاستحقاق لم يكن وليد اللحظة، بل سبقته مقدمات عكست جهوداً كبيرة لرئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى عبر حراك عربى ودولى بدأ قبل أشهر من موعد الانتخابات. من جهة أخرى أكدت نسبة المشاركة عزم الشارع على تحقيق مطالبه المشروعة واستكمال مسيرة التغييرات التى بدأت منذ أكتوبر 2019، خصوصاً أن العراق ما زال بحاجة إلى الكثير منها. اختيار «الكاظمى» مسار التفاهمات السياسية مع الأطراف الإقليمية واحتواء الميليشيات المسلحة كنهج بديل للصدام العنيف ما كان يُنذِر بعودة الاقتتال الداخلى تحديداً مع كل الانشقاقات والخلافات التى تفاقمت مؤخراً بين هذه الميليشيات. الإشارة المهمة التى وردت فى خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال مؤتمر التعاون والشراكة الذى عُقِد فى بغداد منذ شهرين وحثه الناخب العراقى على ممارسة حقه فى الانتخاب إذا ما أراد تغييراً يعبّر عن طموحاته لم تكن مجرد صيغة رسمية بقدر ما حملت استشرافاً دقيقاً لنبض الشارع العراقى وافتقاده الثقة فى أى انتخابات نتيجة ممارسات الترهيب والخروقات الكبيرة التى سيطرت على الاستحقاقات السابقة، مما أسفر عن سيطرة نخب سياسية فاسدة.
على الصعيد الداخلى، شكلت دعوة المرجعية الشيعية الأعلى فى العراق على السيستانى وحثه الناخبين على المشاركة واستغلال هذه الفرصة لإحداث تغيير حقيقى فى إدارة الدولة عاملاً أساسياً على تحقيق نسبة مشاركة جيدة بسبب المكانة الدينية التى يحظى بها السيستانى، وتأثيراً روحياً على أغلبية الشارع، وبالتالى حققت دعوته تفاعلاً واسعاً من قِبل الشرائح الاجتماعية المختلفة، وتحديداً الفئة المتردّدة. من جهة أخرى إقرار قانون الانتخابات الجديد فى 2019 يشكل عاملاً إيجابياً آخر، إذ يكفل القانون الجديد حرية الترشّح بعيداً عن شرط الانضمام إلى قوائم انتخابية أو كتل حزبية.. بل اعتماداً على عدد سكان كل دائرة، الأمر الذى يمثل فرصة للتغيير السياسى وإنهاء سطوة القوائم والكتل التقليدية، بالإضافة إلى تعزيز فرص وصول الشخصيات المستقلة إلى البرلمان وتحجيم الكتل التى سيطرت على المشهد الانتخابى سابقاً ونفوذها داخل الهيئات الرقابية، وهو ما أتاح لها ممارسة كل الخروقات لفرض وجودها.
أبرز المؤشرات الإيجابية التى أسفرت عنها الانتخابات الأخيرة تراجع مكانة الأحزاب الإسلامية والأحزاب التى تتبنى أجندات إقليمية لصالح التيارات المدنية، بعدما اتفق الشارع العراقى على حقيقة أن الخطاب الطائفى الذى روّجت له هذه الأحزاب أفسد المشهد السياسى عبر العقود الماضية. استشعرت هذه الأحزاب خطر المنافسة بعد انتفاضة أكتوبر 2019 بكل ما عبّرت عنه من توحّد الشارع العراقى ضد الهيمنة التى فرضتها على المشهد السياسى بكل مظاهر الفساد الذى كانت تمارسه. المؤكد أن هذه الانتخابات تعتبر بداية النهاية لمستقبل أحزاب الإسلام السياسى والكتل الخاضعة للأجندات الإقليمية، التى طالما زعمت مبرر وجودها غياب البديل الممثل فى التيارات المدنية المستقلة. فى المقابل، ورغم كل صور القمع والقتل والتعذيب التى تعرّضت لها هذه التيارات بهدف استبعادها عن المشهد الانتخابى، فإن وجودها سيفرض نفسه على البرلمان القادم تحديداً فى ما يتعلق بالأجهزة الرقابية وإعادة هيكلتها كما تمكن نشطاء مدنيون شاركوا فى الانتخابات ضمن قائمة «امتداد» من الحصول على نحو 10 مقاعد فى النتائج الأولية، واستطاع المستقلون أن يشكلوا اختراقاً كبيراً بحصولهم على نحو 20 مقعداً.