الموقف السياسى الذى صاغته مصر لنفسها من تشكيل التحالف الدولى العربى لمحاربة «داعش» أدق ما يوصف به، أنه أنضج المواقف السياسية التى اتخذتها مصر منذ عقود طويلة بالنظر إلى تعقيدات وحجم تشابك الأطراف الدولية والإقليمية المرتبطة باتخاذ مثل هذا الموقف، والحديث عن موقف سياسى لدولة بوزن مصر فى العالم والإقليم ولعنوان دقيق مثل «الحرب على الإرهاب»، يستدعى التوقف للحظة أمام عملية الصياغة.
أصعب تحديات تلك الصياغة كانت فى مفاجأة أمريكا لحلفائها الغربيين ولدول المنطقة بقرار تشكيل التحالف، ومطالبة السعودية برعاية عقد مؤتمر تأسيسى لهذا التحالف استدعى مغادرة الوزير السعودى على عجل اجتماعات الجامعة العربية لترتيب «اجتماع جدة»، لتدور العجلة من بعد هذه المحطة فى سرعة هادرة لم تمكن العديد من الأطراف الفاعلة والمهمة من تشكيل مواقفها، فبدا الأمر وكأن معظم هؤلاء يكمل ارتداء ملابسه، بل واختيار ألوانها المناسبة أثناء الهرولة على سلم النزول إلى ساحة المعركة، تركيا فى جدة وجدت نفسها غير جاهزة للتوقيع على وثيقة الاجتماع وما زالت تعمل على تشكيل الصياغة التى نشير إليها، إيران عرضت المساعدة لكن تم قطع الطريق عليها سريعاً فعادت لتتمترس فى موقف المعارض، بريطانيا أهم الحلفاء لم تكن قد عادت إلى برلمانها لتحديد مساحة وحجم المشاركة، هكذا كانت الصورة التى وقف فيها وزير الخارجية المصرى مكتمل الثياب بألوان متسقة، يلقى الموقف المصرى الدقيق بصورة أثارت الانتباه بخصوص جاهزيته.
الأحداث تراكمت بسرعة مذهلة منذ تلك المحطة ليصبح هذا الموقف قديماً نسبياً بعد أن صارت تفصيلات الرؤية المصرية واضحة الآن، استمر ارتباك جميع الأطراف المتعجلة ودخلت الحالة الليبية إلى منعطف أخطر مما كان مقدراً لها، الموقف المصرى طالب التحالف بضم ليبيا إلى ملف المواجهة والحل، فالمشهد ينبئ بأن المنطقة قد دخلت بالفعل إلى نفق لن تخرج منه بمثل ما دخلته، وشظايا تلك المواجهة بقوات دولية مرشحة للانطلاق وإصابة أماكن عدة فى الإقليم، فضلاً عن احتمالات الفشل أو طول مدة المواجهة كما ترتب أمريكا، فما المطلوب الآن لإدارة مثل هذا الملف الشائك بالتداعيات وبالأطراف الذين يمسون الأمن القومى المصرى مباشرة؟
نص الدستور المصرى بتعديلاته الأخيرة على تشكيل (مجلس الدفاع الوطنى المصرى)، وهو المجلس المكلف بالنظر فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، ويدعو رئيس الجمهورية المجلس للانعقاد مرة كل ثلاثة أشهر، أو كلما دعت الضرورة ذلك، وهناك قرار جمهورى بشأن تنظيم الأمانة العامة لمجلس الدفاع الوطنى، لم يحرم الدستور الرئيس من حقه فى تعيين «مستشار للأمن القومى» ولم يلزمه بذلك، فاختصاصات ومهام «أمين عام مجلس الدفاع الوطنى» جاهزة للوفاء بالغرض ليترك الأمر وفق رؤية الرئيس لإدارة دولاب عمله الرئاسى فى الاكتفاء بالثانى أو تعيين الأول أيضاً، لكن ما نراه مهماً الآن هو الإسراع فى هذا التعيين للقيام بالمهام التى من الواجب وضعها أمام الرئيس بدقة وشمولية، فلو لم ينعقد هذا المجلس الآن ويفعل القيام بمهامه الآنية فمتى ينعقد؟
ترسيخ مبدأ المؤسسية فى اتخاذ القرار وإدارة ملفات بحجم تلك التحديات لها أثر إيجابى للغاية فى الداخل والخارج، الموقف المصرى إزاء التحالف الحالى نجحت الرئاسة المصرية بجدارة فى ضربة البداية الخاصة به لكنه يحتاج إلى إدارة تتسم بالنفس الطويل، ومن الاختزال الشديد أن يترك لمؤسسة الرئاسة تحمل تبعات متابعته والعمل عليه دون تفعيل لمجلس هذا هو صميم اختصاصه، فضلاً عن أن الرئاسة الآن أمامها ملفان لا يقلان خطورة وأهمية عن سابقهما «أزمة مياه النيل» و«الوضع فى ليبيا»، تلك فقط أهم التحديات الخارجية لذلك نحتاج إلى كثير من الرجال حول الرئيس يدفعون رؤيته الوطنية على مسارات التنفيذ.