رحمة الله لا تتأخر، لكنها تأتى فى الموعد الذى حدده الخالق لها.
رسم الله تعالى لنا صورة لهذه القاعدة فى فواتح سورة مريم وهو يقدم لنا نبيه زكريا كنموذج على عطاء الرحمة الذى يفيض من الخالق على المخلوق، حتى بات هذا النبى الكريم وما حدث له مثلاً يضرب على رحمة الله بعبده.
عاش زكريا يحلم بغلام يمثل امتداداً له، ويحمل ذكره من بعده، دعا ربه كثيراً وهو شاب، وكان دعاؤه يشتد كلما سار به العمر ومرت به السنون، حتى مسه الكبر، ووهن عظمه، وشاب شعره، دون أن يمن الله عليه بما يريد.
مثل آخر قدمه لنا القرآن الكريم على ذلك فى قصة نبيه إبراهيم عليه السلام وزوجه سارة حين بشرتها الملائكة قائلة: «وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ»، فما كان من سارة إلا أن علقت: «قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ».
لقد تعجبت سارة التى لم تعد فى سن حمل ولا إنجاب، وطعن زوجها إبراهيم فى العمر، من البشرى التى زفتها لها ملائكة الرحمن بأنها ستنجب غلاماً، لقد وصلت إلى مرحلة يأس بعد دعاء طال لله عز وجل.
لم يكن الله تعالى ليتأخر عن نداء عبده، لكنها مواعيد حددها الخالق، وهو أدرى بمن خلق، ليهدى فيها الأمنية وأكثر إلى من ينادى ويدعو.
الله تعالى يريد للإنسان ألا ييأس وأن يظل قلبه معلقاً برحمة ربه، يدعوه ويناجيه، ويأمل الخير منه سبحانه، ويصبر على حكمه. والصبر كما تعلم نقيض اليأس، وقد شاءت إرادة الله أن يفيض برحمته وكرمه على عباده فى هذه اللحظة بالذات، وثمة آية قرآنية كريمة تقول: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا».
قبل لحظة اليأس بخطوات قليلة فاضت رحمة الله على عبده زكريا، فرزقه الله تعالى بغلام اسمه يحيى. وفى لحظة يأس رزق نبيه إبراهيم وزوجه سارة بغلام هو نبى الله إسحاق، ومن وراء إسحاق «يعقوب».
لقد نهى الله تعالى عن اليأس من رحمته، أو الاغترار بحظوظ من ركبوا الحياة، ويظن الضعيف أن الله يتركهم أو تاركهم يفسدون فيها ويهلكون الحرث والنسل.
الله تعالى يريد أن يعلّم الطامع فى رحمته الصبر، ليرسل له فيوض رحمته فى الوقت الأنسب له حتى لا يقع فى الفخ نفسه الذى وقع فيه المحاظيظ الذين يتعجب من سكوت الخالق على ظلمهم، كما يملى سبحانه وتعالى للظالم لعله يثوب إلى ربه ويعود إلى رشده فيرحم نفسه ويرحم عباده، والله تعالى يقول: «وأُملِى لهم إنَّ كَيْدِى مَتِين».
إنها حسابات سماوية لا يدرك الإنسان مغزاها ودلالاتها ولا يفهم أنها أقدار تحل فى مواعيد. فالله تعالى عليم بالناس لأنه رب الناس جميعاً، ولا يستطيع مخلوق مهما كان ذكاؤه أن يدرك الحكمة العميقة للخالق.