فى لحظات الاحتياج للدعم والسند واليد التى تشد وتمسك وتتمسك وتهدهد وتضم وتواسى وتشجع نبحث عن الدفء الذى يدفع بالدماء إلى جميع أعضاء الجسد فتدب الحياة فى نفوس كانت تقترب من النهاية من الألم وربما الإخفاق أو الخذلان، وقد يمنحنا القدر من يملكون كل درجات الدفء الإنسانى من قلب يحتوى، وقدرة على الإنصات والمشاركة، وعطاء لا ينتهى، ونظرات تذيب أى جليد وتدفع الشمس لوسط السماء لتنير وتنشر أشعتها فتقضى على البرودة وما يليها من أحاسيس سلبية مفزعة.
وفى قانون وعرف وتقاليد الأحبة والرومانسيين وعشاق العلاقات الإنسانية الراقية الكاملة فإن غياب الحبيب عن دائرة الحياة الخاصة بهم يعنى البرودة إلى درجة التجمد، حيث يبدأ القلب فى عملية حسابية بالتناقص لتصل إلى معدلات مخيفة قد تهدد الوجود نفسه فيعيش فى تجربة الجنين الذى اعتاد على دفء رحم الأم وموسيقى الحياة (دقات قلبها)، وفجأة يجد نفسه وقد خرج إلى عالم شديد البرودة وتتلقفه أيادٍ ثلجية الملمس واللون وترعبه أصوات العالم الخارجى الذى لم يعرفها من قبل ويؤلم رئتيه سريان الهواء الخارجى ووصوله إليها بعد أن اعتاد على استنشاق الأكسجين النقى من دم أمه فيكون رد فعله الطبيعى صرخة الحياة التى -للعجب- تطرب وتسعد كل من حوله والمنتظرين له لأنها الدليل الوحيد والأول والقوى والثابت الذى لا يتغير من جنين لآخر مهما اختلف اللون أو الوطن أو الدين أو الزمن فهى لم ولن تتغير دليل الحياة.
وكأننا نعيد دورة الميلاد بكل مراحلها التى تستمر تسعة أشهر فى جنة الأمومة الداخلية نعيش وتنمو مشاعرنا ومداركنا وتتغير فصيلة دمائنا لتندمج مع الأحبة فإذا غابوا عنا احتجنا للدفء الصناعى وما إدراك ما هو وكيف يكون وأين نجده؟ ففى اللحظات الأولى من الحياة يسرعون بهذا الكائن الصغير إلى ما يسمى بـ«الحضانة»، التى اشتق اسمها من الأحضان البشرية ليعوض الطفل عما فقد ولو لساعات حتى تنتظم داخله العمليات الحيوية وينضم لنادى العالم الكبير.
ويبدو أن الكرة الأرضية هى أقرب شىء لرحم الأم ولحياتنا، فقد أثبت العلم الحديث وأبحاثه وتجاربه المعملية أن هناك علاقة بين تغير مزاج الإنسان وتعاقب الفصول من خلال دراسات عديدة للسلوك البشرى الذى يختلف فيه الناس بعضهم عن بعض فى تفاعلهم وتعاطفهم مع حالة الطقس والظروف الجوية. ومن المعروف أنه يغلب على الكثيرين الشعور بالحزن لدرجة يصلون فيها إلى الاكتئاب عند هبوب الرياح الرعدية وتساقط الثلوج فى فصل الشتاء، خاصة فى الدول التى تقصر فيها ساعات النهار بشكل كبير ويقل تعرض الناس للشمس التى تحجبها الغيوم لشهور طويلة.
وفى الدول التى تمتاز بجوها الحار ودرجات حرارة عالية يختلف سلوك المواطنين تماماً ورد فعلهم حيث تنتشر الفرحة والابتهاج بقدوم الشتاء ويستمتعون بالأجواء الشتوية الباردة. ولأن العلم هو الحياة واستمرارها، فقد قام العلماء بتجاربهم وطوروا اختراعاتهم منذ بدأ (جيمس وات) عام ١٧٣٦ - ١٨١٩، فى تجاربه من أجل اختراع المحرك البخارى، وبعد محاولات عديدة استمرت سنوات قام (ويليس كاريير)، عام ١٩٢٢، بإجراء تعديل هائل لنظام وحدة التدفئة والتبريد لتصبح أكثر أماناً للتدفئة، كما قام بتصغير حجم الوحدة، وهو ما سمح بتوافر أنظمة التدفئة والتهوية، واستمرت التجارب والتحديث بحلول الخمسينات من القرن الماضى وحتى الآن.
وإن كان الدفء الصناعى قد أصبح من مستلزمات الحياة الحديثة وأصبح أمراً اعتيادياً، فإننا ما زلنا نبحث عن يد الحبيب التى تمنحنا دفئاً لا ينافس ولا مثيل له فى الأثر والمعنى.. أدامها الله لى ولكم.