هل حقاً أصبح العراق أفضل حالاً؟ هل حقاً كل ما كان يطمح إليه العراقيون هو قدر أكبر من الحرية و«الديمقراطية» وحرية السفر والتنقل وإبرام تعاقدات الأعمال؟ هل أصبحت المنطقة برمتها أحلى وأجمل بعد أحداث 2003 الجسام وهى الأحداث التى نقلت العراق من عالم الديكتاتورية وحكم الفرد والقهر والظلم إلى عالم الحرية والأمان والسلام؟ وهل العراق عقب أحداث 2003 حقق هذا الانتقال المشار إليه أصلاً؟ وفاة وزير الخارجية الأمريكى الأسبق كولن باول مناسبة لفتح باب النقاش وربما قليل من التفكير بدون أدلجة أو سابق تعليب حول مسألة الديمقراطية والحريات. قرار غزو العراق «التاريخى» ربما لم يكن بالتاريخية التى يتحدث عنها البعض. باول «ينتظر محكمة الرب» كما ذكر مواطن عراقى للصحفى البريطانى فى صحيفة «ذا جارديان» البريطانية مارتين شيلوف، فباول يُنسب له «إنجاز» -وفى أقوال أخرى «كارثة»- اتخاذ قرار غزو العراق فى عام 2003، وذلك بناء على التقرير الأمريكى حول أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة والذى تم تقديمه للأمم المتحدة فى عام 2002. وزير الخارجية باول بنفسه وصف دفاعه عن هذا التقرير وهذا التوجه بأنه «وصمة عار فى مسيرته السياسية». وقال فى مقابلة تليفزيونية فى عام 2005 إن «الأمر مؤلم جداً لى». كان الأمر مؤلماً له، وربما عاش سنوات يتألم بسبب تقرير كاذب أيّده وقرار خاطئ دفع لاتخاذه. لكن العيش مع الألم 20 عاماً يختلف عن العيش مع القتل والفقد والتهجير والنزوح واللجوء والتفكيك والتخريب والدمار «فى كنف الديمقراطية والحرية». هذا ما حدث فى العراق. هذه الكلمات ليست دفاعاً عن الديكتاتورية وحكم الفرد وكبت الحريات وسلب الحقوق. وهى ليست دفاعاً عن الرئيس العراقى الراحل صدام حسين، كما أنها ليست شماتة فى «باول»، فقد توفى الرجل عن عمر يناهز 82 عاماً بسبب مضاعفات كورونا.
هذه كلمات الغرض منها البحث والتفكر. ما طبّل له العالم وزمّر فى عام 2003 من تخليص العالم من الإرهاب، وبسط سطوة السلام ومد ذراع الأمان، وإعادة تأسيس عراق جديد على قواعد الديمقراطية والحرية والوئام والسلام أدى إلى العراق الذى نتابع أخباره ومجريات أموره اليوم. واليوم لا يقف مستقلاً عن الأمس. فالأمس شهد مقتل ما لا يقل عن 200 ألف شخص ونزوح ولجوء ملايين آخرين وأكثر من 20 عاماً من الفوضى التى لا تهدأ. ما جرى فى العراق هو أن بدلة جميلة براقة رائعة يرتديها شخص مقاييسه تناسبها وألوانها توائمه وتجعل منه نجماً هوليودياً يطمح الجميع إلى أن يكونوا مثله تم تفصيل بدلة مماثلة وتجرى محاولات حشر «العراق» فيها رغم اختلاف المقاييس والمقاسات والطول واللون.
وكانت النتيجة أن العراق انحشر فى البدلة وجر معه المنطقة برمتها. الديمقراطية حلوة مفيش كلام، لكن محاولات الاستنساخ فاشلة مفيش كلام أيضاً.
ذهب «باول»، لكن ما أسهم فى عمله لم يذهب، وما أفضى إليه هذا العمل لم يذهب. وحتى لا يتم تحميل باول ما لا يسعه حمله من ذنب أفضى بمنطقة الشرق الأوسط إلى حالة من الفوضى العارمة أو على الأقل أوضاع تنذر بانفجارات مزرية أمام أول حدث صغير، فإن المنطقة ومَن فيها عليهم أن ينفضوا عن أنفسهم صفة المفعول به ولو مرة، ويرفعوا راية الفاعل. ما فعله باول وما وصلت إليه المنطقة يعنى أن محاولات إعادة إنتاج أنظمة مشابهة لتلك التى سقطت انتحار، ومحاولات الإبقاء على تلك التى لم تسقط كما هى دون تعديل أو تغيير قتل بطىء.