(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)، [الآية 35 سورة الأحزاب].
أنزل الله عز وجل (إن المسلمين والمسلمات) دليلاً على أن الإيمان غير الإسلام، وهو أخصُّ منه، لقوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ)، [الحجرات: 14]. وفى الصحيحين: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» فيسلبه الإيمان، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، فدلّ على أنه أخصّ منه كما قررناه فى أول شرح البخارى، وقوله (والقانتين والقانتات) القنوت هو الطاعة فى سكون (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)،[ الزمر: 9]، وقال تعالى: (وَلَهُ مَن فى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ)، [الروم: 26]، وقال: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَّاكِعِينَ)،[آل عمران: 43]، (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، [البقرة: 238]، فالإسلام بعده مرتبة يُرتقى إليها، ثم القنوت ناشئ عنهما. (والصادقين والصادقات) هذا فى الأقوال، فإن الصدق خصلة محمودة، ولهذا كان بعض الصحابة لم تُجرَّب عليه كذبة لا فى الجاهلية ولا فى الإسلام، وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق. (والصابرين والصابرات) هذه سجية الأثبات، وهى الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة، وتلقِّى ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أى: أصعبه فى أول وهلة، ثم ما بعده أسهل منه، وهو صدق السجية وثباتها. (والخاشعين والخاشعات) الخشوع: السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته، كما فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، (والمتصدقين والمتصدقات) الصدقة: هى الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء، الذين لا كسب لهم ولا كاسب، يعطون من فضول الأموال طاعة لله، وإحساناً إلى خلقه، وقد ثبت فى الصحيحين: «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله»، فذكر منهم: «ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
وفى حديث أبى ذر أنه قال: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجى العبد من النار؟ قال: «الإيمان بالله»، قلت: يا نبى الله، مع الإيمان عمل؟ قال: «ترضخ مما خوّلك الله»، أو «ترضخ مما رزقك الله»، ولهذا لما خطب النبى صلى الله عليه وسلم يوم العيد قال فى خطبته: «يا معشر النساء تصدَّقن ولو من حليكن، فإنى رأيتكن أكثر أهل النار»، وكأنه حثهن ورغَّبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار، وقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: ذُكر لى أن الأعمال تتباهى، فتقول الصدقة أنا أفضلكم. وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال: ضرب رسول الله مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، أو جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدّق بصدقة انبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همّ بصدقة قلصت، وأخذت كل حلقة مكانها، قال أبوهريرة: فأنا رأيت رسول الله يقول بإصبعه هكذا فى جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا يتسع، وقد قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[التغابن: 16]، فجود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغّضه إلى أولاده، كما قيل:
ويظهر عيب المرء فى الناس بخله.. ويستره عنهم جميعاً سخاؤه
تغطَّ بأثواب السخاء فإننى.. أرى كل عيب والسخاء غطاؤه
والأحاديث فى الحث عليها كثيرة جداً.
(والصائمين والصائمات) فى الحديث الذى رواه ابن ماجه: «والصوم زكاة البدن» أى: تزكّيه وتطهّره وتنقّيه من الأخلاط الرديئة طبعاً وشرعاً، ومن صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل فى قوله (والصائمين والصائمات)، وهذا ناسب أن يُذكر بعده (والحافظين فروجهم والحافظات) أى: عن المحارم والمآثم إلا عن المباح، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)،[المؤمنون: 5 -7].
قال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا محمد بن جابر، عن على بن الأقمر، عن الأغر أبى مسلم، عن أبى سعيد الخدرى، رضى الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل، فصليا ركعتين، كتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات»، وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبى الهيثم، عن أبى سعيد الخدرى، رضى الله عنه، أنه قال: قلت: يا رسول الله، أى العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات». قال: قلت: يا رسول الله، ومن الغازى فى سبيل الله؟ قال: «لو ضرب بسيفه فى الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون الله أفضل منه».
وقال الإمام أحمد، عن أبى هريرة، رضى الله عنه: كان النبى يسير فى طريق مكة، فأتى على جمدان فقال «هذا جمدان، سيروا فقد سبق المفردون»، قالوا: وما المفردون؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً»، ثم قال: «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: والمقصرين؟ قال: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين؟ قال: «والمقصرين»، تفرّد به من هذا الوجه، ورواه مسلم دون آخره، قال رسول الله: «ما عمل آدمى عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من تعاطى الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: ذكر الله عز وجل».
وقال إن رجلاً سأله فقال: أى المجاهدين أعظم أجراً يا رسول الله؟ فقال: «أكثرهم لله ذكراً»، قال: فأى الصائمين أكثر أجراً؟ قال «أكثرهم لله ذكراً»، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك يقول رسول الله: «أكثرهم لله ذكراً»، فقال أبوبكر لعمر، رضى الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله: «أجل» وقوله: (أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً) أى: هيأ لهم منه لذنوبهم مغفرة وأجراً عظيماً وهو الجنة.