كان يشعر بأنه ضيف استثنائى فى هذه الدنيا، فغادرها دون أن يكون له فيها زوجة أو بيت، ولكنه ترك فيها ما هو أبقى وأقوى فناً وحياة وإبداعاً وحباً وجماهيرية ستبقى إلى الأبد.. ترك «أيقونة العبقرية» التى لا يمكن تقليدها أو استنساخها، لأن «الأصل» له بريق قطعة ألماس بكر متشبثة بجذورها فى جبل صلب!
«أحمد زكى» النجم الذى قهر الغياب، واحتل فى عقولنا وقلوبنا مساحة لم يمسسها من بعده نجم، حتى لو تشابهت ملامحه بملامح «النمر الأسود»، أو تجاوزت أرقامه فى شباك التذاكر ما حققه «زكى».. لأنه ببساطة كان هو «معيار الإبداع» وليست الشخصية المرسومة فى السيناريو، كان «الكتالوج المثالى» لكلمة فنان يحترق عشقاً وشغفاً لينافس نفسه ويثبت لنفسه فحسب أنه «المشخصاتى» رقم «1».
لقد التقيت النجم الأسمر مرة واحدة، أثناء تصوير فيلم «نزوة»، كان عيد ميلاد النجمة الرائعة «يسرا»، وكانت تؤدى بعض مشاهدها فى موقع التصوير، وهناك ذهبنا إليها بالتورتة وجاء «أحمد» مشاركاً ودوداً.. لدرجة أنك تكاد لا تشعر بنجوميته.
إنه العملاق الذى غيّر مقاييس النجومية، وأصبحت شخصياته وأغنياته «موضة».. بدءاً من «حسن هدهد»، الشخصية التى جسّدها الراحل فى فيلم «كابوريا»، والتى انعكس تأثيرها على شرائح كبيرة من المجتمع المصرى، «ومستطاع» فى «البيضة والحجر» و«عبدالسميع» فى «البيه البواب» و«محمد» فى «النمر الأسود» و«صلاح» فى «مستر كاراتيه»، وغيرهم الكثير.. لقد حوّل «أحمد زكى» هذه الشخصيات إلى ترجمة لواقع الشباب المحبط والفئات المهمّشة.. ولم يقل أحد إن أفلامه تسىء إلى سمعة مصر، لأن مصر أكبر وأعظم من أن يسىء إليها فيلم.. بل صرنا على المستوى الإنسانى نستشهد بكلمات أفلامه، ولم يشكك أحد فى وطنيته.. فجميعنا نستشهد بجملته الشهيرة فى فيلم «ضد الحكومة»: (كلنا فاسدون لا أستثنى أحداً)!.
لقد فُطم «أحمد» على الحرمان، ولم يجد إطاراً يجمع أشلاءه المتناثرة فى هيئة إنسان إلا الفن، كان يكتمل ويجد حقيقته أمام الكاميرا، وأمام الكاميرا كان صاحب قضية يجيد الدفاع عنها حتى لو هاجم قطاعاً حساساً مثل جهاز الشرطة فى فيلمه «الهروب».
لقد وُلد «أحمد زكى» ليمثل، وتألم فى أشد لحظات إصابته بالسرطان ليُبدع، وأخفق فى زواجه وقصص حبه ليعشق على الشاشة.. فإذا كانت شخصية أحمد الشاعر فى «مدرسة المشاغبين» تجسّد شاعر المطحونين.. فشخصية الزعيم «جمال عبدالناصر» فى فيلم «ناصر 56» تترجم أحلام الملايين من عشاق الزعيم الخالد، والذين رأوه بدمه ولحمه على الشاشة!. كان الإبداع بالنسبة له هو الحياة نفسها.. وكأنه يمثل ليثبت أنه على قيد الحياة.. ربما لهذا نتمسّك جميعاً بشريط السينما الذى يحمل أفلامه، بصورته فى «البرىء»، «اضحك الصورة تطلع حلوة»، «معالى الوزير»، «أرض الخوف»، «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل»، «ضد الحكومة»، «الهروب»، «زوجة رجل مهم»، «الراعى والنساء».. وهى الأفلام التى تمثل الذروة الإبداعية لأداء «أحمد زكى».. العبرة ليست بالديكور ولا بالطبقة الاجتماعية موضوع الفيلم ولا بأسماء النجوم، العبرة بأسلوب طرح القضية والرسالة خلف الفيلم. لقد مثل «أحمد» لآخر مشهد حتى آخر نفس بالفعل.. وكأن الكاميرا هى رئته التى يتنفس بها! ورحل «أحمد زكى» ليظهر جيل يحاول استنساخه، واستثمار التشابه فى الملامح، ليقعوا فى فخ أن «أحمد زكى» لن يتكرر، وأن «الموهبة» لا تقبل التقليد وإلا أصبحوا مسخاً فى عالم الفن.