ظهر فكر الاعتزال الإسلامى مع بداية الدولة العباسية. اتصف الاعتزال بالحرية فى التفكير، بصرف النظر عن بعض الشطحات، وبعيداً عن السياسة.
فى عصور الرواج سيطرت الحرية الدينية، بينما سيطر الأشاعرة فى عصور الاضمحلال العباسى.
وفى عصر المتوكل كُتبت السنة النبوية على طريقة الأشاعرة، فتحول الإسلام للسلفية الأشعرية التى أدخلت الدين عصور التضييق.
يرى الأشاعرة لليوم أنهم أهل السنة والجماعة والتسمية سياسية تاريخية ليست شرعية دينية.
والأشاعرة ضيّقوا الدين، وهم الذين اهتموا بأسانيد الأحاديث النبوية بصرف النظر عن فحص المتون، وهم الذين يحتجون للآن بأقوال الصحابة، بلا فحص ولا قدرة على النقد أو النقض، أكثر ما يحتكمون للعقل والاجتهاد.. والمنطق.
فى مراحل تاريخية كثيرة رفض الأشاعرة إعادة تقييم الأحكام الشرعية القديمة وحرّموه، اقتداء بالصحابة والتابعين، مع أنه ليس صحيحاً أن رفض الصحابة والتابعون الاجتهاد.
فقد أفتى الصحابة بجلالة قدرهم طبقاً لمقتضيات العصر وطبقاً للمستجدات، فأخرجوا أحكاماً جديدة، وأسسوا نظريات حديثة. لم يحدث أن اعتبر الصحابة رضوان الله عليهم المرونة فى الاجتهاد خروجاً على الإسلام.
بالعكس، كان الصحابة مجددين، بينما «مشايخ اليومين دول» هم الذين يخافون التجديد اقتداء بعصور الصحابة وعصور التابعين.
الاقتداء بعصور الصحابة حجة ضعيفة، والإصرار على التمسك بأحكام السلف رغم تغير الأزمان حجة هى الأخرى ضعيفة.
فى كتابه «تاريخ التشريع الإسلامى» قال الحضرى بك: «كان كبار الصحابة يستندون فى فتاواهم إلى كتاب الله، ثم إلى السنة، وإن لم يجدوا، أفتوا بالرأى. ولما جاء الخلف، وقفوا عند فتوى الصحابة، وعند الحديث، فأفتوا فى كل مسألة بما وجدوه فى الحديث أو بما لقوه فى آراء الصحابة.. وإن لم يجدوا سكتوا».
السكوت عن الأدلة الجديدة كان لُب مذهب السلفية القديمة وأهل المدينة. فى فترة تاريخية أصرت مدرسة المدينة (أهل الحديث) على التوقف عند ظواهر النصوص، احتفالاً باللفظ أكثر من المضمون.
غضوا الطرف عن البحث فى أسباب الأحكام، وتوقفوا عن إعادة تقييم العلل فى المسائل الشرعية.
لذلك تجمّد مجتمع المدينة بعد عصور الخلفاء الأربعة، واقتصر أغلب فقه أهل الحديث على البحث فى اجتهادات الأوائل فإن لم يجدوا سكتوا.
فى المقابل تألقت مدرسة الرأى فى العراق، بفقه أكثر حرية فى التعامل مع النص، ومع المنقول من أقوال الصحابة. استهدف فقه العراق بحث العلة قبل الحكم، وفحصوا بالمرونة المنقول، وخرج الإمام أبوحنيفة النعمان مصراً على وجوب الرأى، وعقلنة الشريعة.
اعتبر «أبوحنيفة» الاجتهاد فريضة، وأفتى فقهاء العراق بجواز مخالفة آراء الصحابة إذا ما خالفت مستجدات العصر علل الأحكام.
فقه المدينة كان سلفياً، استمد منه الأشاعرة طرقهم فى الاستدلال، بينما كان فقه العراق نموذجاً فى التجديد، واعتماد الرأى أخذاً بالعلل، والمسببات طبقاً لظروف الواقع ومستجداته.
كتب الإمام الرازى قائلاً: «كان أصحاب الحديث (يقصد أهل المدينة) حافظين لأخبار رسول الله، لكنهم عجزوا عن النظر أو الجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأى سؤالاً أو إشكالاً.. تحيروا»!
السؤال: ما الذى وصل إليه الإسلام عندما تمسك بعضهم بالتراث ورفضوا الرأى والاجتهاد؟ الإجابة: وصل إلى أن بعضهم رفض العلم بعدما حاولوا ربطه بالدين، ولما تجاوز العلم رفضوه.. وشككوا فيه!
فى «شرح عبدالعزيز على أصول البزدوى» جاء أن أحد فقهاء المدينة أفتى بحرمة زواج طفلين رضعا من نعجة واحدة، إعمالاً للمشهور عن النبى صلى الله عليه وسلم: «كل صبيين اجتمعا على ثدى واحد.. حرم أحدهما على الآخر»!