أتمنى أن تنتبه الحكومة لظاهرة خطيرة بدأت منذ فترة على مهل، وتنتشر الآن بوتيرة متسارعة مع تزايد التوقعات باندلاع أزمة عالمية فى الغذاء، والارتفاع الملحوظ فى أسعار السلع.
الظاهرة بدأها كبار التجار بإخفاء السلع فى مخازنهم -المرخصة وغير المرخصة- بهدف «تعطيش» الأسواق لتعظيم أرباحهم، ويبررون جريمتهم بأنهم سيخسرون ما يمسكونه من بضائع حال بيعها اليوم، لأنهم لا يأمنون شراءها -أو استيرادها- بالسعر نفسه غداً، ومن هؤلاء انتقلت العدوى لتجار نصف الجملة حتى تجار التجزئة.
واجب الحكومة الآن أن تتصدى لتلك الظاهرة، لأنه من الخطورة بمكان أن يجد المواطن نفسه حائراً بين حكومة يراها كالحاضر الغائب، ومنحرفين افتقدوا أبسط مبادئ الإنسانية والرحمة والشرف، وتجاوز نهمهم للمال أبعد الحدود.
المواطن ما زال حتى الآن «عشمان» فى قدرة الحكومة على ضبط الأسواق ومراقبة الأسعار، والتصدى لجشع التجار الذين تراكمت قناعاتهم بعجز الحكومات المتعاقبة لسنوات طويلة مضت، وهو ما انعكس على ممارساتهم فى «قطم» وسط المواطن ومص دمه بأعصاب هادئة.
الحكومة ليست مسئولة فقط عن أصحاب البطاقات التموينية حتى تقصر جهودها على توفير مستحقاتهم، لكنها مسئولة عن كل المواطنين وتأمين احتياجاتهم الأساسية خاصة الغذائية والدوائية وحمايتهم من غيلان السوق.
مهمة الحكومة ليست مستحيلة.. فقط عليها تطبيق ما تحت أيديها من قوانين، مثل قانون حماية المستهلك رقم 181 لعام 2018، الذى ينص على أن جريمة إخفاء السلع الاستراتيجية، أو الامتناع عن بيعها، عقوبتها الحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز مليونى جنيه أو ما يعادل قيمة البضاعة موضوع الجريمة أيهما أكبر.
وليس أقل من إلزام كل تاجر بالإفصاح عن عدد مخازن المواد التموينية التابعة له، وتقديم البيانات الحقيقية عن المخزون متضمنة الكميات والأسعار التى يجب أن تتطابق مع المدوَّن فى دفاتره.
ويا سلام لو استعدنا عقوبة التجريس التى سادت فى زمن المماليك، وكان التجريس -كلمة مستوحاة من الجرس- عقوبة يحكم بها القاضى على السارق أو خائن الأمانة أو المختلس بأن يتم تجريسه؛ أى يركب حماراً بالمقلوب ويدهن وجهه بالجير. وتعلق فى رقبته الأجراس الصغيرة أو الجلاجل ويزفه الناس ويدورون به فى الطرقات والأزقة، والجلاجل ترن مع كل اهتزاز يتقن افتعاله «المكارى» وهو سائق الحمار، ويتقدم تلك الزفة المنادى بطبلته صارخاً: هذا جزاء من ارتكب الجريمة، وخرجت من هذه العقوبة كلمات ما زالت متداولة حتى الآن ومنها «الجرسة» أو «الفضيحة أم جلاجل».
وفى العصر الحديث تطورت عقوبة التجريس لتصل إلى القانون فى قضايا الغش تحديداً، وكانت صحف أربعينات القرن العشرين تنشر «حكمت محكمة جنح كذا بمعاقبة فلان بالحبس شهراً وغرامة عشرة جنيهات وألزمته بالنشر على نفقته فى صحيفتين يوميتين، وذلك لارتكابه جريمة كذا» ليعلم القريب والبعيد أنه مذنب، فيتجنبه الناس.
مما يروى عن الكاتب الكبير الراحل د. يوسف إدريس أنه كان فى لقاء مع الرئيس العراقى صدام حسين فى بغداد، وفجأة قطع «صدام» الحديث وخرج وعاد بعد دقائق قليلة مبتسماً ومسدسه فى يده وقال: «يا أخى التجار اللصوص خربوا اقتصاد البلد.. الآن أطلقت الرصاص على 12 منهم».
ولا يتصور أحد أننى أدعو لقتل التجار ولو أصابهم الجشع، لكننى فقط «أحرِّض» الحكومة على فرض سلطتها واستعادة هيبتها التى هى على المحك الآن.