أنتمى إلى جيل تعلَّق فى مطالع الصبا برياضة كرة القدم، والتزم بتشجيع أحد فرقها، ولم يتوان عن متابعة منافساتها والتأثر بأجوائها المشحونة بالعواطف والنزعات، لكن هذا الجيل لم يكن «يتمتع» آنذاك بوجود عشرات القنوات الفضائية التى تعالج الشأن الرياضى، ولم يشهد قنوات تتحدث باسم أندية معينة وتلتزم بتأييدها والترويج لها.
لم يكن لدينا أيضاً «سوشيال ميديا»، ولم يكن هناك مؤثرون يتابعهم الملايين وهم يخصصون المحتوى الذى يقدمونه فقط لكرة القدم، ولم نحظ بآليات تشجيع و«تحفيل» على وسائط «التواصل الاجتماعى»، ولا مراكز لتصنيع «الكوميكس» وإطلاق المنشورات الكيدية.
لم تتطور حال كرة القدم فى بلادنا تطوراً نوعياً مقارنة بالعهود السابقة، لكن مع ذلك فإن التغطيات الإعلامية لمنافساتها وأوضاعها، ومشاركة المواطنين فى صنع المحتوى المتعلق بها، تزايدت آلاف المرات، وزادت المساحة التى يحتلها الإعلام الكروى أضعافاً مضاعفة، مقارنة بغيره من أنواع المحتوى المتخصصة فى العلوم أو الآداب أو الفنون أو السياسة أو الاقتصاد.
كنا نشاهد المباراة بعد ظهر يوم الجمعة عادة، ثم ننتظر إعادة الأهداف فى حال تيسر ذلك، ولاحقاً سنشترى الطبعات الأولى من جرائد الغد حين يحل الليل، وسنقرأ «مانشيت» عريضاً فى «الجمهورية» أو «المساء»، يقدم سجعاً لاذعاً يداعب مشاعر جمهور الفريق الفائز، أو نقرأ مقالاً تحليلياً فى «الأهرام» أو «الأخبار» يلتزم لغة أكثر تحفظاً.
كان التعصب موجوداً، والمكايدة حاضرة، لكن الأمور لم تكن تتطور إلى صراعات تسيل فيها الدماء، أو تتداولها المحاكم، أو يناقشها «البرلمان»، أو تهيمن على المجال العام وتصادر ما عداها من أولويات، أو تختلط بالسياسة والقضاء والاقتصاد.
حدث ذلك التطور بطبيعة الحال، وربما كان هذا مماثلاً لما يحدث فى بلدان أخرى بدرجات متفاوتة، لكن الأكيد أن الإعلام الرياضى فى مصر لا يؤدى دوراً إيجابياً، وأنه ينطوى على مخاطر حقيقية، رغم وجود بعض أنماط الأداء المنضبطة والجيدة.
وفى الإجمال، فإننا لا نمتلك حالة رياضية ناجحة بشكل يكفى لتبرير كل هذا الضجيج الذى يملأ الإعلام الرياضى ويكاد يغرقه فى أتون صراعات عبثية لا معنى لها ولا طائل منها، ولا يبدو أنها ستسفر أبداً عن منتصر أو مهزوم.
هذا ضجيج أكبر بكثير مما يوجد من طحين، وليت الأمر يقتصر فقط على الإزعاج والتجاوزات وشد الأعصاب ومفاقمة التوتر العمومى، لكن الأمر ينطوى فى كثير من الأحيان على جرائم أو مخالفات زاعقة، يتم ارتكابها على مدار ساعات البث من دون اكتراث أو مساءلة.
تتحول بعض أقنية الإعلام الرياضى، ومعها قطاع من الممارسات الإعلامية فى وسائل إعلام غير متخصصة، إلى مصانع للفتنة، والتعصب، والكراهية، والتحريض على العنف، والتمييز، وتشويه الحقائق، واختلاق الوقائع، والطعن فى الأعراض. لا يتم اختيار المصادر فى بعض برامج الإعلام الرياضى على أساس الجدارة أو الإحاطة العميقة بموضوع التغطية، وإنما تتم استضافة بعض المنتسبين للمجال الرياضى فقط لأنهم أكثر قدرة على تفجير الأزمات.
وتؤدى «السوشيال ميديا» دوراً شديد السلبية فى ملف المواكبة الإعلامية للأحداث الرياضية، وبدلاً من التركيز على ما هو رياضى وتنافسى وإيجابى، فإن القطاع الغالب من تفاعلاتها ينخرط فى مشاحنات تثير التعصب والكراهية وتتجاوز الأخلاق.
أوضاعنا الرياضية هشة، والحديث عن المؤسسية والمبادئ فى مؤسساتنا الرياضية لا يعززه الواقع، والأطر المعنية بالمحاسبة لا تحاسب على نحو شفاف وحازم.
يفتقد مجال الإعلام الرياضى قواعد المساءلة الواجبة قانونياً ومهنياً واجتماعياً، وبعض العاملين به لا يحترمون القواعد الإعلامية، وعدد منهم كان من «نجوم» كرة القدم، لذلك فإنهم يعتقدون أن «مكانتهم الجماهيرية» و«تعصبهم لفرقهم» وإدارات أنديتهم دروع تحميهم من المساءلة.
الربط بين الحصص المقدمة على القنوات الرياضية وبين «السوشيال ميديا» حافل بالخطورة؛ إذ يتم بث إفادات تليفزيونية معينة على «يوتيوب» أو «تويتر» فى إطار تقديم مُغرض أو مخادع أو تحريضى، ثم تُنصب حفلات السب والقذف والكراهية والتعصب، وتُؤجج نيران الفتنة.
لا بد من وقفة مع الإعلام الرياضى بشقيه «التقليدى» و«السوشيالى»، وهى وقفة يجب ألا تقتصر على القواعد الزجرية أو التقييدية، لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من التعاون والتفاهم والتوعية، حتى لا نواجه كارثة كبيرة بسبب هذا الشحن المتواصل والضغط العبثى.
نحن فى حاجة إلى مبادرة من مجالس إدارات الأندية، تتمخض عن ميثاق شرف يلتزم به الجميع التزاماً طوعياً، ويتضمن التعهد بعدم التورط فى تصريحات أو ممارسات تؤجج الفتنة والتعصب أو تُجرِّح المنافسين أو أطراف اللعبة.
وفى المجال الإعلامى، سيكون من الواجب أن نسعى إلى تنظيم عمل مقدمى البرامج وفرق التحرير فى التغطيات الرياضية، وحبذا لو توافق الجميع من خلال مبادرة من نقابتى الصحفيين والإعلاميين وروابط صحفيى الرياضة على كود ملزم وتوجهات معيارية تُحد من الممارسات الحادة والمنفلتة.
جزء كبير مما يجرى فى تلك الساحة يتعلق بالرغبة فى تحقيق المشاهدات وتعزيز الانتشار، وهو أمر ينعكس فى الأرباح التجارية بطبيعة الحال، لكن تلك الأرباح تكلفنا أثماناً فادحة، وينبغى بناء على ذلك أن تجرى عملية ضبط لما يُقدم، بحيث لا يكون الربح هو الهدف الوحيد للحصص الإعلامية المتعلقة بكرة القدم.
سنحتاج أيضاً إلى دور أكثر وضوحاً للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ونقابتى الصحفيين والإعلاميين فى ملاحقة أنماط الأداء المنفلتة والسعى إلى تقويمها.