ألا تستحق «التجربة» -وفى أقوال أخرى المأساة أو المصيبة- السورية منا تدقيقاً متروياً وفهماً متأنياً؟ ألا تستحق سوريا والمنطقة العربية التى لا تختلف دولها فى التركيبة والشخصية والعقلية كثيراً عن سوريا أن نتوقف عند مجريات أمورها على مدار عقد ويزيد ونحاول أن نفهم حقيقة ما جرى بعيداً عن الشعارات التى جرى ترويجها فى نشرات الأخبار ومقالات الرأى المتأثر كل منها بأيديولوجية وتوجّه صاحبها أو مالكها، وبعيداً عن تبنى الغرب لكل من قال «يا ثورة» بغض النظر عن خططه البديلة، سواء كانت إقامة دولة إخوانية أو إمارة داعشية أو كياناً مفتتاً مهلهلاً تقتسم من أراضيه الدول المجاورة ما تتمكن منه، وبعيداً عن طبيعة العلاقات التى تربط بين سوريا من جهة وبين كل دولة عربية من جهة أخرى؟!
اليوم تبدو أمارات عودة سوريا إلى المشهد العربى كدولة جريحة لكن مستمرة، نهشت أمراض عُضال عدة أجزاء منها، لكن القلب ما زال ينبض.
مؤشرات عديدة تخبرنا بأن الممانعات الأيديولوجية والشخصية والعقائدية لاستمرار الكيان السورى على ما هو عليه لم تعد بالقدر نفسه من البأس والشدة.
فى نوفمبر 2011، اتخذ وزراء الخارجية العرب قراراً بتعليق عضوية سوريا، وبقى مقعدها شاغراً. والمؤشرات تنبئ بعودتها قريباً. وطيلة هذا العقد المريع، شهدت سوريا والمنطقة، وتحديداً دول ما يسمى بـ«الربيع العربى»، ما لا عين رأت أو أذن سمعت، فالسيناريو متطابق مع اختلاف مكونات الطبخة.
البداية ثورة شرعية على الظلم والفساد والقهر والمعاناة، ثم إخوان هنا، وجماعات «جهادية» هناك، ومرتزقة بـ«أوت لوك» إسلامى هنا وهناك والنتيجة واضحة لكل ذى عينين. فوضى عارمة أبعد ما تكون عن وصف خلاقة نجم عنها أشباه دول وسوريا النموذج الأجدر بالدراسة نظراً لفداحة ما جرى.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، وعلى مدار سنوات طويلة ظل البعض ينبه إلى الممرات الآمنة للدواعش والمرتزقة من تركيا إلى سوريا، وإلى الدور التركى فى تفتيت سوريا وتقطيعها إرباً، لكن لا صوت يعلو فوق صوت الرغبة فى الإطاحة بالنظام دون خطة بديلة أو سيناريو واضح لما بعد الإطاحة.
وحتى حين خرجت جهات غربية عدة أخيراً لتؤكد أن عشرات، وفى أقوال أخرى مئات، الآلاف من الأفراد القادم أغلبهم من الشرق الأوسط وأوروبا مروا بأمان وسلام ووئام إلى سوريا بغرض القتال فى صفوف «داعش» عبر منافذ تركية، لم ينقلب الغرب رأساً على عقب، بل مضى دون إبداء أى اندهاشة، وكأن داعش وتدمير سوريا و«المعارضة المعتدلة المسلحة» و«الجماعات الجهادية المعارضة» لم تكن.
«عقلنا فى راسنا نعرف خلاصنا»، لكن عقلنا لن يستوى فى «راسنا» إلا بالمعرفة والاطلاع وفهم المجريات وتحليل النتائج. لا الجن حرامى اللحمة والذهب، ولا دخولنا الحمام بالرجل الشمال، ولا الصراخ اعتراضاً على رواية لم يقرأها أحد خوفاً من اسمها الخادش لحيائنا، ولا اجتزاء كلام قاله إعلامى من السياق العام، ولا أى فقاعة من الفقاعات القادرة على إغراقنا ستمدنا بمعرفة أو تساعدنا على فهم ما جرى فى سوريا.
سوريا العائدة تدريجياً إلى المشهد العربى يجب ألا تعود وكأنها عادت من رحلة. سوريا تعود فى ظل نكبة تنافس نكبة فلسطين فى فداحتها. مات نحو نصف مليون سورى فى «حرب» غير مفهومة. نصف السوريين غادروا منازلهم فى أكبر موجة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية وما يزيد على 5٫5 مليون سورى فروا إلى خارجها، وستة ملايين من النازحين فى الداخل، ومكونات النكبة كثيرة.