عندما نفقد براءة الطفولة وتجرفنا أمواج الحياة إلى الأمام وتتحول أعمارنا إلى رقمين متجاورين نبدأ، دون تفكير وبتلقائية وعفوية، تقييد مشاعرنا، ربما خجلاً أو خوفاً من ردود فعل الآخرين، أو لعدم قدرتنا على تقييم العلاقات الإنسانية فى الصبا والشباب، وربما لطبيعة البعض الحذرة والقلقة والمتحفظة ونظراتهم غير الواثقة من النتائج.
ومن الممكن أن نجد صغاراً يمارسون تقييد المشاعر فى شهورهم الأولى فنرى وجوهاً صغيرة بريئة تتجمد الدموع فى عيونها ولا تنهمر بسهولة، وتحاول فى لحظات فرحتها واندهاشها وفضولها وشوقها أن تضغط على شفتيها وتقبض على ابتسامتها وتمنع ضحكتها من الانطلاق فى مشهد كوميدى تخلده اللوحات الفنية والصور الفوتوغرافية التى لا تعرف الكذب أو الادعاء، وكأنها تعاند المحيطين ولا تريد أن تظهر فرحة الحب واللقاء أو تمنح قبلة السعادة للمحيطين فى عملية طبيعية بارعة لتقييد المشاعر.
وإذا أردت أن ترى أصدق عملية لتحرير المشاعر فعليك أن تلاحظ الخطوط والدوائر والأشكال التى يضعها البعض على الأوراق الموجودة أمامه دون تفكير أو ترتيب أو تخطيط، فقد يظلل الورقة باللون الأسود أو الرمادى، أو يرسم زهوراً أو قلوباً أو آلة قاتلة أو عملية إعدام أو سماء ملبدة بالغيوم، وربما يرسم قمراً يبكى ونجوماً حائرة تحاول أن تواسيه أو تؤنس وحدته، أو شجرة تتساقط أوراقها، وهذه هى قصة كل ممسك بالقلم والريشة والألوان.
وإذا أصاب الجفاف الإبداعى أحد الفنانين فإن الألم يعتصره ربما حتى الاكتئاب والموت كما حدث لأشهر رسام كاريكاتير عالمى عندما توقفت حياته تماماً حزناً على وطنه المهزوم وجفت ريشته وأصابه الصمت المؤلم فهجر كل شىء.
ويفسر بعض علماء النفس العالميين هذه الظاهرة بأنها نوع من الخجل المرضى، الذى يسيطر على مشاعر الفرد منذ الطفولة، كما أنه ثمار شجرة الخوف والقلق والضعف، حيث يؤثر على بعثرة طاقاته الفكرية وتشتيت إمكانياته الإبداعية وقدراته العقلية، كما يشل قدرته على السيطرة على سلوكه وتصرفاته تجاه نفسه وتجاه المجتمع الذى يعيش فيه.
ويقدم البروفيسور (فيليب زيمباردو)، وهو أحد خبراء علم النفس فى الولايات المتحدة فى جامعة ستانفورد، روشتة للمصابين بداء تقييد المشاعر، فيقول إنه لا مانع من أن يكتب أحدنا رسالة لنفسه يعبر فيها عن مشاعره الداخلية التى يريد إعلانها ولا يستطيع، أو يسجل رسالة صوتية لنفس الهدف ليستمع إليها عدة مرات، فذلك يمنحه الشجاعة والقدرة على تحرير مشاعره.
وما أقرب هذه الروشتة والوصفة العلمية للإبداع، فعندما يزداد الشوق لإنسان قريب للقلب، بعيد عن العين، أو تقف العادات والتقاليد والظروف بينه وبين البوح والاعتراف والاقتراب، فمن الممكن أن تكون النتيجة النهائية قصيدة شعر أو رواية أو مقالاً أو لوحة فنية، كما أنه من الممكن أن تكون بداية رحلة فى عالم الفن والتميز، وحتى نقترب أكثر من ضرورة تحرير المشاعر فلنتذكر أجمل ما غنته أم كلثوم (قصيدة الأطلال) التى كتبها العاشق الدكتور إبراهيم ناجى فى حب مريضته التى اكتشف أنها حبه الأول عندما ذهب ليعالجها فجلس ليكتب ويحرر مشاعره على دفتر الدواء الخاص به.
وعندما صُدم الشاعر مأمون الشناوى فى حبيبته ومنعته القيود الاجتماعية من البوح كتب أغنيته الشهيرة (لا تكذبى)، أما نزار قبانى فقد اعترف بكل ما يدور داخله وتحدث وأفاض فى التعبير كما لو كان يعيش وحده، وكان نجاحه مبهراً لأنه أتقن تحرير المشاعر.
فهيا نتعلم ونعيش ونتقن تحرير مشاعرنا.