فى الوقت الذى يتصاعد فيه الجدل حول منع نقابة المهن الموسيقية لمطربى المهرجانات، الذين أخلّوا بالذوق العام وتلفظوا بكلمات غير لائقة فى أغانيهم بما يسىء لجيل بأكمله، لأن هذا الفن يرسخ لثقافة الإسفاف والضحالة، تودع مصر فنانة أصيلة من جيل العمالقة الذين أثروا الساحة الفنية بأعمالهم، سواء فى المسرح أو الدراما أو السينما وحتى الغناء، سهير البابلى واحدة من جيل العمالقة، حيث اجتهدت وثابرت وشقت طريقها وسط الصعاب حتى تصل إلى ما وصلت إليه من نجومية خلّدت أعمالها، وأصبحت أيقونة ومرجعية تُدرَّس. ما نشهده هذه الأيام من عبث يطال الفن الراقى أمر مؤسف، والمؤسف أكثر أن تجد المدافعين بشراسة عن هذا الإسفاف تحت مسمى فن الارتجال، دون تعب ولا علم ولا دراسة ولا مجهود، فقط اختبر طبقات صوتك وإن كانت ملائمة فأنت تصلح للغناء أياً ما كان المحتوى! المهم أن تُطرب الحضور بكلمات مسجوعة، وصوت يعلو ويخفت حسب ما تقتضيه النغمة الموسيقية، ليس مهماً إن كنت جاهلاً أو أمياً أو حتى تتلعثم بمخارج الحروف ولا تجيد نطق الكلمات، الأهم هنا أن تجيد استقطاب الجمهور إلى أغانٍ بلا ذوق ولا هوية.
حين تكون المقارنة بين جيل تربى على الأصالة وصعود السلم من بدايته، وآخر قفز درجاته بالفهلوة والارتجال فإنها مقارنة ظالمة، أن نتكئ فى المبررات على ترك الحكم للجمهور لمن يريد الغناء، وأن الغث يطرده السمين مع الأيام، فهذا منطق باطل، حين يتربى جيل بأكمله على نوع من الطرب يعتقد أنه الأصل فى الموضوع، فتلك كارثة ترتكب فى حقه، خصوصاً بعد أن توارى الفن والطرب الذى يحترم جمهوره، بألحان وموسيقى انسيابية عذبة تُطرب الروح والفؤاد، قبل أن تتمايل لها الأجساد رقصاً، جيل العمالقة أمثال عبدالوهاب وعبدالحليم وفريد الأطرش، لم يعد يتلمس خطاهم أحد ولا تسمع أغانيهم إلا ما ندر. السائد الآن هذا الضجيج فى اللاشىء، تحاول الإنصات فلا تجد سوى الصخب والضوضاء والتلوث السمعى، عبدالحليم حافظ قذف بحبات الطماطم والبيض وهو يعتلى خشبة المسرح ليغنى ورغم أنه اجتهد وتدرب على أصول الغناء وتعلم الموسيقى خطوة تلو أخرى، لكنه أخفق، ثم نجح بعد مثابرة، احترم جمهوره وصبر على الإخفاق، حتى نجح وارتقى سلم النجومية، وغيره كثيرون ممن عانوا فى بداية حياتهم الفنية.
مطربو المهرجانات يبررون وجودهم على الساحة الفنية بأنهم امتداد للأغنية الشعبية التى تربّع على عرشها أحمد عدوية، وحسن الأسمر وغيرهما، لكنهم لم يجتهدوا فى البحث عن سيرتهم الفنية التى تعثرت كثيراً وتعرقلت حتى يصلوا إلى ما وصلوا إليه، لم يتصنعوا ولم يزيفوا واقعهم، لم يتعروا حتى يجذبوا مشاهدات مدفوعة الأجر مثلما يحدث الآن، قدموا فناً شعبياً يتناسب والذوق العام بعيداً عن التزلف والمبالغة لشحن الجمهور، وكسب قاعدة جماهيرية كبيرة تدافع عن نجوميتهم، ما يحدث الآن يخالف القواعد المعروفة لأصول الطرب، ما يحدث أن الغث يطرد السمين وليس العكس، أطفالنا تردد كلمات أغانى المهرجانات بشغف دون الالتفات إلى المعنى والقيمة، ما يصل إلى آذانهم هو المعتمد، لأنه طغى على الفن الراقى والأغانى الهادفة، الموال فن لا أعتقد أن أحداً يستطيع الإتيان به مثل ما فعل وديع الصافى، وفهد بلان، وصباح فخرى، وكاظم الساهر، وأركان فؤاد، حتى الأغانى الخفيفة التى كانت تصدح بها «الشحرورة صباح» كانت ذات معنى وجرس موسيقى ونغم يدخل القلب ويرسخ فى العقل، فماذا قدم مطربو المهرجانات من أغان خالدة تُحسب لهم. هى مجرد كبسولات طربية مؤقتة تخرج الطاقات ولا تلبث أن تنزوى، لا يمكن التعويل عليها، أصبح الغناء مرتبطاً باللازمة والشهرة والحركات البهلوانية على المسرح لشحذ الجمهور وإثارة حماسه، دون ذوق أو انتقاء للكلمات، فما المطلوب من جيل وجد نفسه وسط هذا الهراء؟ هل سيصمد ويعود إلى أصل الطرب ويقول هو الأبقى والأصلح وهو لا يعرف عنه شيئاً؟!.