قف، أنت فى حضرة الإله آمون، إله الشمس والريح والخصوبة فى الميثولوجيا القديمة، واحسب خطوتك بدقة فأنت على مشارف الانتقال من معبد الأقصر إلى معبد الكرنك.. هنا تعانق الأسطورة التاريخ، ويعلن المصرى القديم عن وجوده المنقوش بدقة وإبداع على جداريات المعابد.. من هنا تبعث القومية المصرية من جديد، تتحدث بصوت واثق عن أمجادها التى أبهرت العالم، تتغنى بتراثها الحضارى، يعلو صوت الصبايا بالغناء، تتكسر على إيقاع الموسيقى نعرات التأثيم.. على الصفين تقف تماثيل على هيئة أبى الهول، تزين «طريق المواكب الملكية»، أقدم طريق احتفالى دينى فى التاريخ.. وتسخر من الحديث عن عبادة الأصنام: ما أتفهك من صعلوك، عنقك لا تطال قامة أجدادنا، تتقمص هوية غيرك وتلتحف بعباءة صحراوية وتنسى أنك «ابن النيل».
ثلاثة مراكب «مقدسة» مصممة بالطراز الفرعونى تسير فى قلب نهر النيل وسط أضواء مبهرة، ترمز إلى ثالوث طيبة المقدس: «آمون» و«موت» و«خونسو»، رموز الاحتفال بعيد الحصاد «الأوبت» لدى المصريين القدماء.. إنها «طيبة»، قال عنها عالم المصريات الفرنسى الشهير شامبليون: «طيبة، تلك أعظم كلمة بين كل اللغات.. جمال آثارها وسموّها مدهش».. من لا يدرك عظمة أكبر متحف مفتوح فى العالم، وعظمة الإبداع والإبهار (إضاءة، ديكور، تصوير، غناء، تصميم رقصات، المزج بين السينما والمسرح، التقديم.. إلخ)؟.. من لا يدرك هذا الجهد فعليه أن يبتلع لسانه ويصمت.
إنها ثورة على القبح والفتى، عملية صقل لتاريخ من ماس ليعود له بريقه، ومصر تعلن هويتها الفكرية والوطنية بإبداع الفراعنة المعاصرين.. الآن، سقطت من خريطة مصر لعنة شيطنة الفن وتحريم صوت المرأة والغناء.. انتفض التاريخ شامخاً ينشر النور والتنوير ويعلن بنغمات «الهارب» أن هذه الحضارة تمحو رياح الصحراء الغريبة وترد الأبناء إلى أحضانها.. وأنها حضارة بهجة وحفاوة بالحصاد والخصوبة.. ليست حضارة قتل وترويع وتهديد، لسنا عبدة أوثان، بل بيننا من نصّبوا أنفسهم آلهة وأقاموا أوثاناً يقدسونها ويركعون لها ثم نشروا «محاكم التفتيش» وعلقوا المشانق وصادروا عقولنا باسم الدين!.
لا مكان لكهنة العصر فى حضرة «آمون» نحن فى رحاب ثقافة الحياة والخلود، فلا مكان لأعداء الحياة.
عد إلى «البحيرة المقدسة» وتحمّم بضوء القمر، صديقتى «أميرة بهى الدين»، المحامية والإعلامية والكاتبة، رأت هذا المشهد الخيالى ووصفته فى روايتها «كل هذا حدث فى يوم واحد»: ما تزال الفتيات الصغيرات جالسات فى صحن المعبد الكبير، يلقَى على أسماعهن تاريخ الحكمة وحكمة التاريخ، ما زِلن يتحلّقن حول المسلّة، وأرواحهن تشرئب صوب قرص الشمس الحانى آتون.
وفجأة، قفزن لحافةِ البحيرة المقدسة، وألقَين بأجسادهن فيها، مَن تعرف العوم ومَن لا تعرف، جميعهن غطسن تحت الماء المعطر باللوتس، واغتسلن من ضعفهن وارتعاشة قلوبهن ومخاوفهن الدفينة بالماء المقدس وعطور الحكمة، فسَرَت السعادة والقوة لأرواحهن، حتى ظَننها نزهة بريئة قصد بها إسعادهن فقط، ولم ينتبهن لتسلل الحكمة والوعى والتاريخ لعقولهن الصغيرة، لم ينتبهن لغرس الحب والوجد والعشق والقوة والكرامة فى قلوبهن الصغيرة، لم ينتبهن لِما يحدث لهن، ولِما سيحدث فى حياتهن، لم ينتبهن، وكيف ينتبهن وهنّ وقتَها صغيرات بريئات لا يعرفن أسرار الحياة التى سيعشنها وقتَ أن يكبرن وينضجن؟!
فى هذه البحيرة المقدسة، وفى مائها العطِر قَبْلهن وبعْدَهن ومنذ آلاف السنين الفائتة، وبعد آلاف السنين القادمة، تَعمّد الكهنة والحكماء، وحراس الكنوز والحضارة، والمقاتلون والأبطال، والشعراء والمدوّنون على أحجار المعابد، والنحاتون والرسامون، والناطقون بالحكمة والمكشوف عنهم الحجاب، والبصيرون بأسرار الحياة الآخرة والعِلم اللدنى.