اعتدت أن أطالع تلك الشاشة المعلقة على الحائط فى منزلنا فقط وقت تناول وجبة الغداء.. لا أملك وقتاً آخر لها ولا أملك بالاً لمتابعة كل ما تقدمه حزمة كبيرة من القنوات التى تزداد كل يوم. إنه ذلك البرنامج الذى يستضيفون فيه أطباء من كل التخصصات ليتحدثوا عن إمكاناتهم الجبارة فى تخصصهم.. القناة تنتمى لوكالة إعلانية شهيرة وقديمة للغاية.. بل قد أملك القول إنها صاحبة الثورة الإعلانية التى حدثت فى ثمانينات القرن الماضى.. بدءاً من «أم طاقية حمرا» وحتى تلك الشوكولاتة التى كانت «واكلة الجو» قبل أن تندثر تحت أقدام الأنواع المستوردة! لقد كان لتلك الوكالة فضل حقيقى فى تحويل الإعلان إلى عمل فنى ربما يفوق عمره الكثير من الأعمال الفنية الحديثة. لم يُثِر البرنامج المعروض انتباهى فى اللحظات الأولى.. فهو لا يحاول أن يخرج عن جلباب قناته بأى حال.. هو برنامج طبى «إعلانى» لا يحاول التظاهر بالعكس.. تدرك هذا منذ الوهلة الأولى حين تجد اسم الطبيب الضيف وعنوان عيادته الخاصة بل وأرقام التليفونات الخاصة به فى شريط عريض أسفل الشاشة.فى الطب لا تعد الإعلانات التجارية من هذا النوع مقبولة.. فقط هى ثقافة شعبنا البسيط هى ما تجعل لبرنامج يعلن عن طبيب.. بل ولطبيب يعلن عن نفسه بهذه الفجاجة قيمة من أى نوع! المذيع «الطبيب» يحاول أن يبدو موضوعياً قدر الإمكان.. إنه يسأل ضيفه فى اهتمام مصطنع عن أسباب الضعف الجنسى عند الرجال. يبدو الطبيب وقوراً للغاية وهو يتقمص دور العالم.. يشرح بوقار مصطنع الأسباب.. لقد استذكرها جيداً بالأمس.. لقد دفع مبلغاً ليس بالقليل وينبغى أن يدر عليه عائداً محترماً! استغرق الأمر فترة قصيرة لأدرك المأساة.. فالكثير من المغالطات والأخطاء الطبية تقال على الشاشة بينما يؤمِّن المذيع «الطبيب» على كلامه باستفهامات من نوعية «فعلاً؟!».. أتناول ورقة أمامى لأحاول إحصاء الأخطاء الطبية التى تسرد.. قبل أن أفقد الأمل.. فالأمر قد زاد عما يمكننى إحصاؤه تماماً! الطريف أن برنامجاً مثل هذا لا يخضع لرقابة من أى نوع.. فقط هى معلومات المذيع الشاب.. والذى يعتبر المرجع الوحيد لأى معلومة طبية يجود بها الضيف بثقة كما يفعل!!.. أذكر صديقاً كان يمقت المذاكرة تماماً.. ولكنه كان يجتاز الاختبارات الشفوية فى كليتنا بثقة لا حدود لها.. لا ينطق بكلمة صحيحة فى معظم الأحيان.. ولكنه كان سريع البديهة وموهوباً فى التأليف.. لا أخفيكم سراً أنه كان يفلح فى بعض المرات.. فقد كانت ثقته تبعث الشك فى نفوس الممتحنين أنفسهم أنه قد يكون على صواب.. وأن تلك المعلومة لم تمر على الممتحن من قبل!! من الصعب أن تحتفظ بثقتك فى معلوماتك الطبية تحديداً وأنت تواجه هذه الثقة المفرطة أمامك. المشكلة أن البرنامج ليس الوحيد من نوعه.. فتلك النوعية من البرامج قد حازت شهرة ليست بالقليلة.. وانخفاض الوعى بين المشاهدين يجعل كثيراً منهم يثقون فيما يقال.. حتى وإن كان خطأ فجاً.. هناك نظرية قديمة فى علم الاجتماع تؤكد أن الإصرار على الخطأ يجعله صواباً إلى حد ما! المشكلة أن الأمر قد تطور مؤخراً ليتجاوز الأطباء أنفسهم إلى آخرين لا يملكون الحق حتى فى وصف الدواء أو تشخيص الأمراض.. ولكن امتلاكهم دقائق إعلانية على بعض القنوات جعلهم ينتزعون تلك الحقوق ببساطة شديدة.. يتحدث البعض عن ذلك الصيدلى الذى يعلن عن نفسه بأنه خبير معتمد للعلاج بالأعشاب الطبية «من وزارة الصحة» ويمتلك العديد من المراكز التى لا أعرف نوعية الترخيص الذى تعمل من خلاله! أعتقد أن البرامج من هذا النوع ينبغى أن تخضع لنوع من الرقابة الطبية.. ينبغى أن يتم التنويه بشكل واضح بأن البرنامج إعلانى.. وينبغى أن تتم مراجعة ما يتم عرضه من معلومات من خلاله.ربما احتاج الأمر لتدخل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام..فما يحدث حالياً هو فوضى لا يدفع ثمنها إلا البسطاء الذين يثقون للأسف فى كل من يظهر على تلك الشاشة المعلقة على الحائط.. ويمتلكون الوقت والبال لمتابعتها أكثر منِّى.