رأيت عيوناً تسكنها قلوب أصحابها فهى لامعة هادئة ساحبة متحدثة مرحبة مفتونة بكل جميل بديع محب عاشق منتظر ولا يمل الانتظار.
هى عيون تنادى وتدلل وتربت على القلوب التى تفتن بها وبأصحابها فى علاقة راقية خاصة جداً بعيداً عن الشك والأنانية والاستحواذ واللوم والغيرة، عيون تدفع محبيها لأن تتوسل إليها فى خجل ألا تبعدها عن مدى إشعاعاتها ورؤيتها وسكنتها وأن تغلق عليها جفونها حماية وتمسكاً ودفئاً من صقيع الوحدة واللاحب.
وإذا منحك الله مثل تلك العيون فاعلم أنك سعيد الحظ والأكثر منك حظاً هم أحبتك لأنهم سيستمتعون باعترافاتك الدائمة التى تتكرر كل لحظة ومع كل لقاء أو حوار بالحب والشوق واللهفة والتمنى والرغبات وبندائك لهم بالنظرات واعترافات قلبك التى تترجم بكل دقة وتصل لعينيك وتدور حولهم فتحيطهم وكأنها دائرة الصدق والأمان. وفى محاولة لطمأنة هؤلاء المميزين الذين تسكن قلوبهم داخل عيونهم بحثت وقرأت فوجدت أن الأطباء يفسرون ذلك علمياً بأن الإنسان يتبدل كلياً كل خمس سنوات إلا المخ والقلب، فكل أعضاء الجسم تتغير خلاياها من عظام وجلد وأنسجة، وتعتبر الخلايا العظمية الأطول عمراً، إذ تتبدل كل خمس سنوات، أما محتويات المخ فهى ثابتة لا تتبدل بدليل ثبات المعلومات والخبرات والمهارات والذكريات وكل ما درسناه وتعلمناه.
وكما أن المخ ثابت بمعلوماته وعلمه ومهاراته، هكذا الحال مع خلايا القلب التى لا تتبدل، وإذا كانت حكمة ثبات المخ معروفة، فإن ثبات القلب يعود إلى حكمة الله عز وجل بقوله: (لهم قلوب يعقلون بها)، سورة الحج، والتى استشهد بها العالم الراحل د. مصطفى محمود كثيراً فى أكثر من لقاء له.
ويعتبر علماء النفس العين نافذة الروح لأنها من أفضل الوسائل التى يعبر بها الإنسان عن نفسه وعما يدور داخله من قلق أو خوف أو حزن أو فرح وغيره، ويؤكدون أنها من أقوى الأدوات التى يستخدمها الإنسان فى لغة الجسد، حيث تعكس ما يقرب من ٥٠% من ردود فعله.
وبطبيعة الحال كتب الأدباء والشعراء الكثير عن العيون التى تسكنها قلوب أصحابها، فقالوا: إن (كتاب القلب يقرأ فى العيون)، وإنه (إذا قسى القلب قحطت العين)، و(غالباً ما تأتى الدموع من العين بدلاً من القلب)، وإذا جمعنا كل تلك المعلومات وفسرناها، فإن المعنى واحد وثابت لا يتغير أو يتبدل، وهو ما صوّره الشاعر نزار قبانى فى حوار شعرى من أجمل ما كتب وأبدع بين قلبه وعقله عن الحب، فيقول: (حبيبى أحببتك بقلبى ولكن عقلى حاول أن يثنينى عن إحساسى بحبك)، ثم يستكمل الحوار ليقول القلب عن محبوبه: (أحببته حتى جن جنونى فقلت من أجله اقتلونى على شرط أن يكون آخر من تراه عيونى)، ليرد العقل: (كيف لك أن تحب شخصاً بعيداً لا تستطيع أن تراه وسط الطريق، أو تسمع دقات قلبه وهو قريب، أو حتى تسمع صدى صوته وهو يناديك؟!).
ويبدو أن العلاقة بين القلوب والعيون يبحثها الجميع منذ قديم الزمن، ففى كتاب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) لابن قيم الجوزية، الذى يعد أفضل الكتب التى ألفت فى موضوع الحب، مناظرة بين القلب والعين يلوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما، حيث يقول: «لما كانت العين رائداً والقلب طالباً، وهذه لها لذة الرؤية، وهذا له لذة الظفر، كانا فى الهوى شريكى عناء، ولما وقعا فى العناء واشتركا فى البلاء أقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه فقال القلب للعين: (أنتِ التى سقتنى إلى موارد الهلكات وأوقعتنى فى الحسرات)، فقالت العين: (ظلمتنى وما أنا إلا رسولك الداعى إليك ورائدك الدال عليك)». فلينظر كل منكم أصدقائى إلى عينيه فربما وجد قلبه يسكنهما.